حزب الله ومسألة السيطرة على لبنان بيومين
منى فياض
عندما هبطت الطائرة أرض المطار غاب شعور الفرح. شعور بالحزن يهبط على المسافرين ويثقل حركتهم. ينهون معاملاتهم دون أي ابتسامة، وكأن القدرة على الابتسام نضبت، بقيت هناك في الأماكن البعيدة التي غادروها. القاعات قاحلة فيما عدا عدد الركاب القليل الذي كان على الطائرة نفسها. الخواء هو الذي يستقبلك، وعندما تصل إلى نقطة التفتيش الجمركي. يدفع الركاب عرباتهم دون حواجز تعترضها. يقف دركي بعيدا كأنه ترك هناك سهواً. الهواء في الخارج ثقيل على الرغم من اعتدال الطقس، والخواء استوطن الأمكنة والطرقات. الشوارع ترزح تحت وطأة الصمت الصباحي. تحس بموت يخيم على المدينة، تنطق به الشوارع والأحياء والأرصفة الخاوية تحرسها صور من يصرخون بالنصر، فقط لا غير. أسبوعان بالكاد.. ماذا فعلا ببيروت؟
مساء، في الداون تاون مشهد مختلف تماماً، تبحث عن موقف لا تجد، تبحث عن طاولة لتجلس، كلها محجوزة. تتوالى دفعات البشر بأعداد غفيرة لليوم الرابع على التوالي من دون توقف. عندما تقترب الساعة من الحادية عشرة تكون الجماهير في ساحة البرلمان، والشوارع المحيطة بها، قد تحولت إلى ما يشبه التظاهرة. بشر حقيقيون ومتنوعون بمن فيهم فئات شعبية في غالبيتها لا تكف عن التقاطر.
قال لي صحافي أجنبي: هل صحيح ما يقال عن أن حزب الله كان باستطاعته اجتياح لبنان، والسيطرة عليه عسكريا خلال يومين؟ قلت له بالطبع، وربما بساعتين، لكنه ماذا سيفعل بعد ذلك؟ ليس المهم أن يقوم بعمليته العسكرية من أجل اجتياح لبنان، المهم ماذا سيحصل في اليوم التالي؟ باستطاعة أي كان أن يطلق قنبلته الذرية، لكن المهم the day after.
يختلف اللبنانيون في تقييم ما حصل، وفي التعليق على الأحداث. هناك من يعتبرها لعبة كبيرة قام بها السياسيون على حساب الناس. «كانوا متفقين على ذلك، سيناريو ونفذ». يأخذك هذا الرأي إلى نظرية المؤامرة الشهيرة التي تفسر كل شيء بأنه معدّ سلفاً. تجد هذه النظرية جذورها في القدرية التي طالما فسرت مناحي الحياة وخواتيهما. وهناك من آمن بالمقاومة، ووجد تفسيرات لكل تصرفاتها منذ حرب 2006 وحتى الآن. ويبرر ما حصل بأنهم حشروها، فاضطرت للرد. هناك من دعم المقاومة، لكنه الآن لا يصدق ماذا حدث، لماذا إذلال المدينة بهذا الشكل؟ أي حقد وأي ثأر؟ قال نعيم قاسم إنها «عملية جراحية موضعية دقيقة»، هذه وصفة الأميركيين لتدخلهم في حرب الخليج الثانية في العام 1990ضد صدام حسين!! وتسمية «العمليات النظيفة» تطلق عادة عندما ننظر إلى صور المعارك عن بعد بواسطة الأقمار الصناعية، دون مشاهدة «آثار» المعارك. دون أن نشم رائحة البارود، أو صوت القذائف. لكن الآثار هنا لم تمح بعد، والمشهد حيّ ومباشر لا تحمله الأقمار الصناعية، وحتى بعد تنظيف المدينة، ما زلت تجد سيارة محترقة هنا، وزاوية مهدمة هناك. هنا احترقت منازل وسيارات، وتعرض الناس للإذلال، أريد لهم أن يُذلّوا. كيف تكون عملية جراحية نظيفة وأطرافها متواجهون ومحكومون بما يفترض أن نسميه «التعايش»، ليسوا طيارين أميركيين لا يعرفون ماذا ومن يضربون ولا تهمهم النتيجة. لا يزال «جمهور المقاومة» يردد لمن يريد.. إنها مجرد عملية صغيرة.. عينة عما سوف يحصل. وإذا «لم يمشوا»، فسنلجأ إلى الحل العسكري مجدداً! الجذري هذه المرة؟
الوجوم يغطي الوجوه في الأحياء حتى الآن. سمر وصفت ما حصل بأنه كان أشبه بألعاب الفيديو التي يمارسها هؤلاء الفتية الذين أخلى لهم مقاتلو حزب الله الشوارع، ومقاتلو حزب الله هم «الرجال الكبار الذين يلبسون الأسود ويضعون الشارات الصفر على رؤوسهم». بعد تدخلهم السريع في بيروت أخلوا الساحات لفتية، وأولاد يطلقون الرصاص في الهواء، وعلى الصور، وعلى السيارات المتوقفة، ويوزعون «ولي.. ولا» على سكان البنايات، وكأنهم يلعبون، وربما من هنا جاء تشبيهها.. مطلبها تربوي الآن: منع هذي الألعاب كي لا تتحول في لبنان إلى حقيقة. مطلب سهل لكن هل حقا يكفي منع الألعاب؟ وماذا نفعل بالنفوس المعبأة بالبروباغندا؟ وأشرف الناس المقتنعين بأنهم هم على حق، وأنهم أفضل من كل الآخرين الموزعين على سبعة أصناف أخفّهم ذنبا الواقفون على الحياد، ثم المجموعة التي تأكل وتشرب وغير المعنية بشيء آخر، ثم تكر فئات العملاء، وأصحاب المصالح المتعاونين مع العملاء، إلى المهزومين واليائسين، وهذه تختص بها النخب، ثم رافضو الاحتلال بالكلام، وصولاً إلى الفئة السابعة على رأس الهرم، ومع أنا لم نعرف تعداد هذه النسب وتوزيعها العددي، لكن الواضح أن الفئة السابعة هي فئة القلة من الأخيار وهم «أشرف وأكرم وأطهر الناس».
يقول لك البعض، حسناً ارتكبت الحكومة «معصية» وأخطأت بقراريها المتسرعين، لكن ما دخل الأهالي والمواطنين؟ لماذا الانتقام منهم نتيجته قرار سياسي -لنسلم أنه خاطئ- من الحكومة؟ طيب إذا استحق قراران غير قابلين للتنفيذ عملياً هذا التأديب فماذا إذن كان يستحق احتلالهم لقلب المدينة كل تلك المدة الطويلة دون أن يتعرضوا لأي هجوم أو اعتداء؟
ما الذي كان يستدعي كل هذا الذي حصل؟ هناك أسف عند البعض، أسف على فكرة ومثال المقاومة! كيف يمكن أن تتحول المقاومة لتواجه شعبها وأهلها؟ لا تحتاج المقاومة إلى إجماع أو غطاء؟ بالطبع هذا صحيح عند انطلاقها ومع ذلك، فهي ما كانت ستنجح دون التفاف الشعب واحتضانه لها. ولو أن المقاومة انطلقت في البداية، ومارست ما تمارسه الآن، لما نجحت في مقاومتها، ولما حررت أرضا، أو فضاء. وهي تحتاج بالتأكيد إلى تسمية أخرى عندما تحتاج إلى اجتياح الأحياء وإذلالها واستفزازها بهذه الطريقة؟
إن طريقة الاجتياح والإعداد له عبر تكراره على دفعات صغيرة، وكأنها بروفات لجس النبض، كل ذلك يشعرك بوجود رغبة دفينة بالانتقام من المدينة وسكانها، رغبة في إظهار ضعفها وجبنها. إعادة بناء وسط بيروت أثارت الكثير من الجدل منذ البداية؛ ولم يتوقف الانتقاد بعد تعميره وتجديده وظهوره على تلك الصورة الباذخة لعمارة عريقة ومتقنة وراسخة أكدت على استعادة بيروت أمجادها ورسخت صورة جديدة للداون تاون تضاهي أجمل مراكز عواصم العالم. حمل احتلال وسط بيروت في رأيي بعض الشبه بما حصل للبرجين التجاريين في نيويورك، كان هناك تشف من تهاوي البرجين اللذين رمزا للقوة والسلطة والطاقة. فغدا انهيارهما علامة على انهيار الولايات المتحدة رمزيا. هناك أوجه شبه فيما حصل في بيروت، فالتسبب بالشلل التام للحياة المدينية فيها حمل شحنة هائلة من الضغينة والتشفي من العاصمة ومن قدرتها وطاقتها. وجاءت أحداث لبنان الأخيرة لتستكمل ما كان قد بدأ منذ أواخر العام 2006 وبروفات الهجومات المتقطعة وتقطيع أوصال المدينة والخطط العسكرية لمهاجمتها والسيطرة على أحياء بيروت وكأنها مناطق خالية ومجرد تضاريس لخارطة عسكرية لمدينة عدوة لا يتعرفون على سكانها، ولم يسبق أن تعاملوا معهم إلا كمجرد أعداد، أو أعداء. لكن التساؤل هو: ما دامت المقاومة بغنى عن الإجماع الوطني، لماذا إذن تريد إخضاع من لا يوافق على سلوكياتها وخططها ومشاريعها؟ وما دامت لا تريد سلطة، ويكفيها رضى الله عنها، ما حاجتها لاستخدام القوة في بيروت؟ ثم ماذا تعني المطالبة بالمشاركة بالسلطة لمن يشارك بها منذ بداية التسعينيات عبر نواب ووزراء ومدراء عامين وموظفين وكل ما هنالك!!
الشائعة الرائجة الآن، أن من يطالع اللبنانيين الآن هو شبيه نصرالله. «مش هوي ذاته»، حسن نصرالله الأصلي قضى بغارة. الجديد عابس وغاضب، يخاف ومتوتر ولا يضحك. متوتر من أول الخطاب إلى آخره. هذه الشائعة تلعب دور الأسطورة، الأسطورة كحكاية قد تكون غير حقيقية، ولكنها تحمل في قلبها بذورا من «الحقيقة» كما هي، أو كما يتمناها من يؤمن بها. وفي كلتا الحالتين، فإنها تعبر عن واقع معين. شائعتنا تعبر عن تبرير لفهم التغير الذي حصل في توجه المقاومة وخطاب قائدها، تعبر عن رفض للتحول الحاصل عبر حفظ صورة القائد الأصلية كي لا تمس، وتتمنى أن يكون ما يحصل الآن زائفاً وغير حقيقي. وفي هذا رفض لتحول قائد المقاومة التي هزمت ودحرت إسرائيل إلى زعيم-ديكتاتور.
ينقل عن هتلر قوله: إن القائد الذي يكسب الأرض ويخسر الشعب لا يمكن أن ينتصر.
كاتبة من لبنان