سقط التضامن الإسلامي: التحرر من ضرائب منتهية الصلاحية!
أحمد عدنان *
قد ينتقد البعض، عن حق، النبرة الشعاراتية الطاغية على النصف الأول من عنوان المقال، ولكن القصد من استعارة هذه النبرة التي تجاوزها الزمن ويرفضها المنطق، هو التذكير بمقال كتبه الناشر هشام علي حافظ ــ رحمه الله ــ في صحيفة (الشرق الأوسط) قبل ثلاثة عقود تقريباً تحت عنوان «تسقط القومية العربية»، لعله يكون هناك رابط ما بين أسعى إليه اليوم وبين ما سعى إليه الناشر الرائد في ذلك الوقت
لو عدنا إلى لحظة التأسيس الأول للدولة السعودية الثالثة، فسنلاحظ أن الملك عبد العزيز أعاد توحيد البلاد تحت شعار واضح، استعادة الدولة، أو بلغة ذلك الزمن، استعادة ملك الآباء والأجداد، على عكس منهج التأسيس في الدولة الأولى (1744 ــــ 1818) الذي اعتمد على تبني منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان واضحاً في عهد عبد العزيز عدم حضور الفتوى كعامل معيق، ففي سنة 1924م تسامح الملك المؤسس لمصلحة مستوردي التبغ المكيين أمام الموقف المتعنت لأمير مكة حينها خالد بن لؤي، إضافة إلى القصة المعروفة عن الاعتراض الديني على الهاتف واللاسلكي ومعالجتها بدعوة المعترضين لقراءة القرآن في الهاتف واللاسلكي للتأكد من أن هذه الاختراعات ليست من عمل الشيطان، يعزز هذا التحليل بوضوح تبني الملك سعود لاحقاً حق تعليم البنات الذي واجه معارضة دينية واجتماعية محافظة.
بدأت الفتوى في الحضور السياسي الداخلي، منذ حسم الصراع بين سعود وفيصل، وتحديداً في 29 مارس 1964 ــــ والنص هنا واحد في مصادر متعددة ــــ حين أصدر العلماء فتوى بزعامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة، عن تسليم السلطة بأكملها لفيصل على أن يبقى سعود ملكاً بالاسم فقط، ولاحقا، في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1964م اجتمع علماء الدين في منزل مفتي المملكة، وقتها، محمد بن إبراهيم آل الشيخ وأفتوا بعزل سعود ومبايعة فيصل، ثم عقدوا اجتماعاً آخر مع الأمراء في فندق (صحارى) بالرياض، حيث بلغ عدد المشاركين في الاجتماعين ـــــ كما يذكر دي غوري ـــــ زهاء مئة أمير و65 عالماً، وفي 2 نوفمبر 1964، صادق مجلس الوزراء على قرارين: فتوى العلماء بمبايعة فيصل ملكاً، ورسالة وقعها جميع أفراد الأسرة المالكة تبايع فيصل ملكاً وتدين له بالولاء؛ كما بايع الملك الجديد أعضاء مجلس الشورى وأعضاء مجلس الوزراء (في أول وآخر اجتماع مشترك بينهما في تاريخ المملكة) وممثلو أهم المحافظات. وفي كانون الثاني (يناير) 1965م غادر سعود البلاد.
ووفق مقتضيات المرحلة، وبعد تمهيد أو مواكبة الفتاوى بتكفير القوميين العرب منذ نهاية الخمسينيات، أي بداية حضور الفتوى في السياسة الخارجية، أعلن الملك فيصل عن سياسة التضامن الإسلامي في مواجهة القومية العربية والرئيس جمال عبد الناصر، فوقع الخلل الأكبر الذي حرص الملك المؤسس على تلافيه في 30 مارس 1929 بمعركة (السبلة) في مواجهة الإخوان، خلاصة المعركة، أنها مواجهة بين خطاب الدولة وخطاب الإسلام السياسي، فالإخوان طالبوا بنفوذ سياسي أكبر بحجة ابتعاد الملك المؤسس ــــ من وجهة نظرهم ــــ عن الإسلام وتعاليمه، إضافة إلى مكافأة دورهم العسكري في توحيد البلاد، وانتهى الأمر إلى المطالبة بالحكم كله، لكن المؤسس الأول والمصلح الأهم حسم الأمر عسكرياً وسياسياً لمصلحته.
سطوة الفتوى في الدولة السعودية الثالثة بدأت منذ تكفير القوميين وحسم الصراع بين سعود وفيصل
الاعتماد على منهج الفتوى لحسم صراع الحكم بين سعود وفيصل، بعد منهج المؤتمر الشعبي (منهج المواطن بلغة ذلك الزمان) الذي رسخه الملك عبد العزيز حين اعتمد تسمية المملكة العربية السعودية في المؤتمر الشعبي 1932م، قلب مفهوم الشرعية في عقل الدولة من شرعية المواطنة إلى شرعية الأيديولوجيا، وهذا سحب مفهوم الدولة بالضرورة من مظهر المعاصرة إلى مظهر البدائية، أي إلى لحظة الدولة الأولى، كما أن جر العلماء كممثلين للدين إلى صراع السياسة بين ممثلي الحكم، استدعى لاحقاً وبالتدرج ثمناً سياسياً متنامياً إزاء هذا الدور وما تلاه، تفاعلاً مع تطورات السياسة في الداخل والخارج، أي التدخل في شؤون الدولة وقراراتها عبر الوصاية الاجتماعية والثقافية واحتكار الخطاب الديني، ولم يُنتبه جدياً لخطورة هذا الوضع إلا بعد أحداث سبتمبر 2001م.
من جهة أخرى، جاء تبني سياسة التضامن الإسلامي، ليزاوج بين خطاب الدولة وخطاب الإسلام السياسي، ليس في السعودية وحدها، بل في العالم العربي برمته في ما بعد بحكم التطورات السياسية، وتحول الصراع بين الدولة المدنية (بالمعنى الضيق أو النسبي في أغلب الأحيان) التي مثلتها الأنظمة وبين الدولة الدينية التي مثلتها جماعات الإسلام السياسي إلى تنافس على المضمون: أي الخطابين يمثل الإسلام ويستحق لقب الدولة الدينية؟! فتنقلب مقاعد الشرعية مرة أخرى، فتصبح السلطة خارجة عن الشرعية (الدين هذه المرة) نظراً للابتعاد عن المثال الذي تمتطيه جماعات الإسلام السياسي، وبناءً على ذلك تبنت الأنظمة لغة تزايد على الإسلاموية وتكرّمها في الوقت نفسه، وهكذا نستطيع أن نضع تصريح تركي الحمد في برنامج (المقال) على قناة دبي في 27 يونيو 2004 ضمن سياقه حين قال: «المتطرفون والدولة السعودية ينتميان إلى الخطاب نفسه حتى لو توازنت الدولة وتطرف المتطرفون، ولكنهما في النهاية ينتميان إلى خطاب واحد، المتطرفون يقولون إنهم ينتمون إلى الخطاب النقي والصحيح، والدولة تذهب إلى القول نفسه، وبالتالي فإن الدولة والمتطرفين يتنافسان في حلبة المجتمع على التفسير الأصح للخطاب الديني، وتبدو الدولة إجمالاً وكأنها تواجه نفسها».
بالعودة إلى ميثاق رابطة العالم الإسلامي، إحدى المؤسسات التي نتجت من سياسة التضامن، سنفهم المشروعية التي تمتعت بها جماعات الإسلام السياسي بفضل الأنظمة، لاحظوا ميثاق الرابطة: «أن نؤدي فريضة الله علينا بتبليغ رسالته ونشرها في جميع أنحاء العالم، وأن نؤكد من جديد إيماننا بأنه لا سلام للعالم إلا بتطبيق القواعد التي أرساها الإسلام .. أن نذلل العقبات التي تعترض إنشاء جامعة العالم الإسلامي .. أن نطرح كل دعوى جاهلية قديمة منها وحديثة».. ومن وسائل ذلك حسب الميثاق: «الدعوة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على مستوى الأفراد والجماعات والدول .. إنشاء مكاتب ومراكز إسلامية تنشط لخدمة الأهداف الإسلامية.. تقديم الإغاثة العاجلة للمسلمين المتضررين من الحروب والكوارث الطبيعية.. المساهمة في تفعيل نشاط المساجد وعمارتها».
من حيث المضمون، نلاحظ تداخلاً واضحاً بين ميثاق الرابطة وخطاب تنظيم القاعدة أو جماعة التكفير والهجرة وغيرها من جماعات الإسلام السياسي المتأثرة بأفكار سيد قطب أو أبو الأعلى المودودي من حيث لفظ الآخر ومعاداته لولا الابتعاد عن العنف المادي، فرفض الدعاوى الجاهلية على سبيل المثال فيه من الميوعة بحيث يمكن أن يشمل كل تيار وكل فكرة، كما أن النزعة الماضوية في الميثاق لا تفتح الباب لأي أفق عصري ومنتج، فالإشارة إلى تفعيل دور المسجد يقفز بنا إلى بدايات الدولة الإسلامية حين كان المسجد مركز الدولة ورمزها، وكان الأجدى الدعوة إلى استكمال بناء الدولة المدنية العادلة وإلى تفعيل دور المجتمع المدني والمؤسسات وإلى أمن المواطن وحريته، كما أن البند الأول، أي تطبيق أحكام الشريعة على مستوى الأفراد والجماعات والدول تعتمد عليه كل الجماعات المتطرفة في تشريع عنفها وإرهابها.. إضافة إلى أنه يتنافى مع بند صريح في ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي، المنظمة الأم للرابطة، يمنع التدخل في السياسات الداخلية للدول، واعتبار الإسلام خياراً من أجل خلاص العالم مثل الأحادية التي ينطلق منها التطرف وفي سبيلها يعمل، أما حين قرأت تذليل العقبات أمام إنشاء جامعة العالم الإسلامي، فتساءلت: أما زالت تعيش الرابطة في النصف الأول من القرن الماضي؟! والأهم من كل هذا، أليس من حق (القاعدة) وغيرها من جماعات الإسلام السياسي بدءاً من الإخوان المسلمين اتهام الدول «المتضامنة» بالتراخي في تطبيق المنهج القويم؟!
بعد ترسيخ مبدأ التضامن الإسلامي منذ قمة الرباط 1969 بحضور الرئيس عبد الناصر، تنامى نفوذ جماعات الإسلام السياسي تنامياً شرعياً وبديهياً خارج السعودية، لتبدأ أزمة حقيقية في العقل السياسي العربي تظهر في تحول الشعارات السياسية، وأصبحت اللغة تتحرك إلى تطبيق أحكام الشرع بدلاً من تحقيق طموحات الشعب (حالة جعفر النميري في سبتمبر 1983 بالسودان حين أصدر مراسيم تطبيق الشريعة)، وحلت فكرة مجاهدة الكفار محل فكرة التحرر من الاستعمار (تجربة الجهاد الأفغاني التي باركتها الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة بالشراكة مع الفقهاء مقابل نفوذ سياسي واجتماعي مرة أخرى بالضرورة)، والحديث عن العدالة الاجتماعية لم يبق إلا في أدبيات يسار هش خارج المملكة، واستذكره السعوديون بعد مبادرة مكافحة الفقر للملك عبد الله عام 2003 حين كان ولياً للعهد، أما الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والإصلاح السياسي بصفة عامة فقد اندثر حتى تمددت مفاعيل أحداث سبتمبر 2001 في الشرق الأوسط.
الملك فيصل بن عبد العزيز (أرشيف ــ أ ف ب)الملك فيصل بن عبد العزيز (أرشيف ــ أ ف ب)السعودية، دفعت ثمناً باهظاً نتيجة صراعات المرحلة، فمواجهة المد القومي، دفعتها إلى استضافة أبناء الإخوان المسلمين وغيرها من الفصائل الإسلاموية من العالم العربي ودمجها في نسيج البلاد الداخلي، فشُحن المجتمع بخطاب ديني مؤدلج ومسيس عبر التعليم والإعلام مؤسساً لقاعدة عريضة تتعاطف مع الخطاب الإسلاموي المتطرف، مما دفع الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية للتصريح في صحيفة (السياسة الكويتية) عام 2002: «من دون تردد أقولها إن مشكلاتنا وإفرازاتنا كلها جاءت من الإخوان المسلمين.. بحكم مسؤوليتي أقول إن الإخوان لما اشتدت عليهم الأمور، وعلقت لهم المشانق في دولهم، لجأوا إلى المملكة فتحملتهم وصانتهم… وإخواننا في الدول العربية الأخرى قبلوا بهذا الوضع، وقالوا إنه يجب ألا يتحركوا من المملكة، لكن بعد بقائهم سنوات بين ظهرانينا، وجدنا أنهم يطلبون العمل، فأوجدنا لهم السبل، ففيهم مدرسون وعلماء، فتحنا أمامهم أبواب المدارس والجامعات، لكن للأسف لم ينسوا ارتباطاتهم السابقة، فأخذوا يجندون الناس، وينشئون التيارات، وأصبحوا ضد المملكة.. لقد أساؤوا للمملكة كثيراً، وسببوا لها مشاكل كثيرة، لقد تحملنا منهم الكثير، ولسنا وحدنا الذي تحمل، إنهم سبب المشاكل في العالم العربي وربما الإسلامي»، وفي هذا التصريح، إذا لم نأخذ الهجوم على الإخوان المسلمين كرمزية للانتفاض على كل تيارات الإسلام السياسي، نتفهم إعفاء النظام والداخل من أي مسؤولية بحكم صدور التصريح عن مسؤول بارز، لكن لا بد من أن نؤكد على جذور الخطاب الديني المسيس محلياً من الأصل منذ ابن بجاد والدويش، ثم فتاوى العلماء بتكفيير القوميين وعزل سعود، ثم تجربة الجهاد الأفغاني وتداعيات حادثة جهيمان في الحرم المكي 1979، وكل ما سبق يفسر بداهة، سقوط تيار الحداثة في الثمانينيات في مواجهة الصحوة الإسلامية ثم شكوى التيار الليبرالي من تكالب الظروف عليه، وحاجة النظام في الماضي أحياناً وفي الحاضر بدرجة أقل إلى الفتوى من أجل تمرير بعض القرارات وإلا فإن مصيرها التعطيل أو التشويش، مثلاً: القرار المعطل عن وزارة العمل ومجلس الوزراء في 2004 بتأنيث متاجر الملابس الداخلية النسائية، قرار تدريس اللغة الإنكليزية في المدارس الابتدائية الصادر عن مجلس الوزراء السعودي عام 2003، وأخيراً الإثارة التي واكبت افتتاح جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية والتي دللت، في الوقت نفسه، على أن النظام لن يقف وحيداً إذا انحاز إلى التنوير وتخلى عن بعض مواقف التيار الديني التقليدية.. حتى أن بعض الفقهاء تجرأوا وأعلنوا موقفهم المتسامح والمتصالح مع الاختلاط حين وجدوا النظام يقف معهم على الرأي نفسه.
وبالنظر إلى المعطيات السابقة، إضافة إلى إرهاصات وتداعيات الثورة الإسلامية في إيران (1979) وحرب الخليج الثانية (1990) وسقوط الاتحاد السوفياتي (1991)، شهد المشهد السياسي السعودي تحولاً خطيراً: إزاحة التيارات القومية واليسارية التي سادت في الخمسينيات والستينيات كممثلة للخط السياسي المستقل أحياناً، والمعارض أحياناً أخرى، لمصلحة الحضور السلفي أو الإسلاموي، بدءاً من الصحوة الإسلامية في الثمانينيات مروراً بمذكرة النصيحة (1992) ولجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية (1993)، ليمتد السياق بكل انسيابية إلى تنظيم القاعدة منذ 2003، وازى ذلك حضور نخبوي للتيار الليبرالي تمثل في مطالبات رفعت لأصحاب القرار أو بالمشاركات الإعلامية والصحافية، وشمل هذا التحول الطائفة الشيعية التي تصدر رجالاتها في الخمسينيات والستينيات الصفوف اليسارية ليطغى على مشهدها الحضور الديني منذ 1400 هـ بإعلان تنظيم «الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» بقيادة الشيخ حسن الصفار الذي تحول مسماه لاحقاً إلى «الحركة الإصلاحية» ثم حل بعودة أفراده إلى المملكة بعد المصالحة مع النظام إثر حرب الخليج الثانية، وهذا يعني أن المشهد السياسي السعودي في مجمله، إذا استثنينا مواقع النظام، انقسم إلى 3 محاور رئيسية:
الأول، تنظيم القاعدة وحلفاؤه الذين يصنفون النظام كخارج عن الدين، ولا مفر من هدمه واستبداله، ومع أن هذا المحور، ينتمي إلى الأقلية، ولكنه للأسف، شديد الفعالية بسبب طبيعة المحور الثاني.
الثاني، التيار الإسلاموي الموالي للنظام، ولكنه في الوقت نفسه، يطالب بتطبيق المشروع الثقافي والاجتماعي لتنظيم القاعدة وطالبان!
الثالث، كل ما عدا ذلك، ويطلق عليه من باب المجاز، التيار الليبرالي، وهو نسيج متنوّع وواسع وفي الوقت نفسه محدود التأثير والفاعلية بسبب البنية السياسية وجذورها التاريخية، يتبلور من: الليبراليين، العلمانيين، اليسار والقومية العربية، الوسط ومجتمعات المدن، والإسلاميين الذي يميلون للانفتاح والاعتدال والسلفية المستنيرة. وقد نجح هذا النسيج في استقطاب تيارات دينية خالصة، وأقصد هنا، الشيعة والإسماعيلية والمتصوفة، ويتصدر هذا التيار ما بقي من رجالات التيارات القومية واليسارية في الستينيات، وبعض أقطاب الحداثة في الثمانينيات، وهذا المحور، الذي يضم شرائح متناقضة ومتباعدة، يجتمع على الإيمان بالوحدة الوطنية ومناهضة المحورين السابقين بالدرجة الأولى، وبدرجة أقل يطالب بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية تقود إلى دولة المؤسسات والديموقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان.
وهنا، من الواجب استذكار تصنيف د. عبد الله الغذامي في كتاب (الموقف من الحداثة) الصادر عام 1987 عن دار (البلاد): العموديون (ويقصد بهم الشريحة المحافظة ومن أبرز مظاهرها وقتها الصحوة الإسلامية)، الألسنيون (ويقصد بهم النقد الجديد القائم على النظرية وأبرز مظاهرهم وقتها تيار الحداثة)، والانطباعيون (وهو مسمى أطلقه بعض اليساريين على أنفسهم من باب التمويه السياسي).
وبالنظر إلى التقسيمين السابقين، نلاحظ بوضوح، تراجع الخطاب السياسي المدني لمصلحة الإسلاموية السياسية، وهذا يعني في المحصلة، سطوة خطاب التخلف والتطرف، يعود هذا التراجع بالدرجة الأولى إلى عدم مواكبة النهضة الاقتصادية والعمرانية بإصلاحات سياسية تعزز الطبقة الوسطى وثقافة التنوع في ظل ترسيخ أحادية الخطاب الديني حتى محاولة التملص منها بعد أحداث سبتمبر كما نلاحظ في الخطاب الإعلامي والثقافي الذي شجعه النظام في معارك: إصلاح المناهج التعليمية والحرب على الإرهاب.
وبين التقسيمين أيضاً تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة، تتمثل في نتائج اندثار اليسار السعودي الذي أربك المشهد السعودي بصورة لافتة، فبعدما كان هناك يسار صريح ويمين صريح، أمكن تمييز الوسط بينهما، لكن بعد غياب اليسار، أصبح المشهد السعودي يبدأ من اليمين، ثم الأكثر يمينية، وأصبح الوسط مغيباً عن الصورة ولو كان حاضراً في المشهد!
إن إثارة هذا التاريخ، الذي يمتد إلى الحاضر ويطمع في المستقبل، لا يقصد الإساءة إلى شخص أو نظام، بل إدانة الظروف ونقد بعض السلوكيات والقرارات التي فرضتها عن رضى أو إكراه أو سهو، وإذا كان التحرر من خطاب الإسلاموية المتطرفة يبدأ بنقض الأساس النظري لسياسة التضامن الإسلامي.. وإشاعة التنوع، يبقى التخلص من شرعية الأيديولوجيا وسطوة الفتوى على المشهد السياسي.
لا فرق بين خطاب رابطة العالم الإسلامي وخطاب القاعدة أو التكفير والهجرة لولا نبذ العنف
شرعية الأيديولوجيا، تعني تعالي النظام على الشعب، فالشعب ينظر إليه على أنه «رعية»، والرعية دائماً قاصرة وبحاجة إلى رعاية، وفي مقابل حق الرعاية، يلتزم الشعب بواجبات لا حصر لها دون رأي أو قرار، في المقابل نجد شرعية المواطن، ونلاحظ أن المواطن فرد، أي وحدة عضوية مستقلة ومتكاملة لا تكتسب قيمتها بالانتماء إلى قبيلة أو حزب أو جماعة أو جهة أو مؤسسة، هو قيمة مضافة بحد ذاته، تتجسد هذه القيمة في «الرضى» و«المشاركة»، هذا الرضى هو أساس النظام ودرعه الحصينة، أما المشاركة، فهي آلية تطوير النظام وحيويته وضمانة بقائه، وفي ظل هذه الشرعية يتحرر النظام من عوائق الأيديولوجيا المكبلة ببرنامج ملزم بغض النظر عن حاجة الواقع وتطوراته، وجماعات منتفعة تحدد درجة الرضى وتمتلك المشاركة، وفي المقابل .. يتمتع كل المواطنين، وأعضاء النظام منهم وليسوا فوقهم، بحقوق وواجبات متساوية، والقانون هو المعيار بين النظام والمواطن، وبين المواطنين أنفسهم، وإنني لا أشك لحظة، في أن المشروع الإصلاحي للملك عبد الله وإنجازاته تتجه لاستعادة هذه الشرعية المطلوبة استكمالاً لمسيرة سابقيه.
لا تبنى الأوطان بالفتاوى، بل بالقانون، والقانون في مجمله هو مجموعة من القواعد التي تحكم وتنظم سلوك الأفراد في الجماعة وتوفق بين مصالحهم ويجب أن يخضع الجميع لها بدون استثناء، أما الفتوى فهي «تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأله عنه»، القانون يصوغه المشرع نيابة عن المجتمع، والفتوى كما يقول ابن الصلاح «توقيع عن الله تبارك وتعالى» وهذا الادعاء بحد ذاته يشير إلى مبدأ احتكار الإسلام الذي رفضه الإسلام، والمشكلة أننا نستطيع أن نعرف رأي المجتمع عبر الانتخابات أو استطلاعات الرأي أو الدراسات الإحصائية ويمكن تصحيح خطأ المشرع بقانون جديد وفق آليات النظام أو انتخابات جديدة، ولكن إذا أخطأ الفقيه في توقيعه عن الله فيصعب اكتشاف الخطأ ما لم يكن هناك نص قرآني محكم أو حديث متواتر، وحتى يكتشف الخطأ يخسر المواطن وقتاً فادحاً لملاحقة العصر وتطوراته (مثلاً: موقف الخطاب الديني السعودي من حقوق الإنسان حتى إعلان الملك فهد عن موافقته على قيام جمعية حقوق الإنسان الأهلية ثم الحكومية عام 2004، والموقف من الانتخابات حتى إعلان النظام عن تفعيل الانتخابات البلدية في ديسمبر 2004)، كما أننا على الأرجح حين نتحدث عن موضوع معين فنحن نتحدث عن قانون واحد بعد المناقشة والصياغة والإقرار، أما لو انتقلنا إلى الفتوى، فلكل موضوع ألف فتوى، وبالتالي من الأصل، فإن القانون له طابع الإلزام وصفة المساواة وغاية العدل، أما الفتوى فإنها تفتح أبواب التخيير والتنوع والاجتهاد لغاية التعلم أو التعبد، وإذا كان هذا ينطبق على منطق الفرد العادي، فإنه يجب ألا يسري على منطق الدولة، ومن منظور التفاؤل يمكن الإشادة بـ«وعي سعودي» بدأ يلاحظ أهمية الفرق بين «الفتوى» و«القانون» ويحاول السير في الاتجاه الصحيح، وخاصة على مستوى النخب.
ليس هناك شك في استحقاق الملك فيصل للقب المؤسس الثاني للبلاد بعد الملك عبد العزيز، وهذا اللقب جاء استناداً إلى جهد دؤوب ومثابر بذله الفيصل في ترسيخ الاستقرار ووحدة الكيان والتصدي للعواصف الإقليمية والدولية، ولكن هذا الجهد، تأثر بصراعاته مع سابقه الملك سعود ومع خصمه الرئيس جمال عبد الناصر، ونتيجة هذه الصراعات، دفعت المملكة أثماناً باهظة ولازمة في سبيل إعادة التأسيس، والمطلوب بعد هذه السنوات، التمسك بإنجازات الفيصل والتحرر من ضرائب التأسيس الثاني التي أوجزتها في إحلال شرعية الأيديولوجيا محل شرعية المواطن.. وسطوة قيمة (الفتوى) على قيمة (القانون).. واشتراك النظام مع جماعات الإسلام السياسي في جذر واحد، ولا شك بأن تحقيق هذا المطلب يقع على عاتق المؤسس الثالث للدولة السعودية الثالثة!
* صحافي سعودي
الأخبار