دفاعا عن “خصوم” الأمس
محمد مخلوف
ماذا بقي لنا من أحلامنا، نحن جيل شباب الستينات والسبعينات من القرن الماضي، القرن “العشرين”؟.
نحن الذين كان شعارنا ليس أقل من تغيير العالم وجعله أكثر عدلا وسلاما وجمالا وزاخرا بالحب بعيدا عن استغلال الإنسان للإنسان وإنهاء ظلم الرجعية والإقطاع ومن كان يسير في ركابهما، حسب قاموسنا المستخدم آنذاك.
نحن الجيل الذي كان يخرج في مظاهرات غاضبة في البلدات، وحتى الصغيرة منها، لمجرّد أن طائرة عدنان مندريس، رئيس وزراء تركيا الأسبق وأحد رموز المشروع الذي صممه الإنجليز آنذاك تحت تسمية “حلف بغداد”، قد مرّت في سماء البلاد.
نحن الجيل الذي كان يتابع نتاج مفكّري العالم ويستقصي أخبارهم ويستفسر عن مواقفهم حيال قضايا الحريّة والتحرر؛ الجيل الذي كان يناقش ثورات العالم الكبرى والذي عاش ما سمي بـ”ثورة الطلبة” في فرنسا ضد المجتمع القائم خلال شهر مايو وكأنها تجربته الخاصّة ومفاتيح مستقبله وأمل الإنسانية المشرق.
لكن رغم المسحة الأيديولوجية في ذلك كلّه قد لا يكون من المبالغة القول إنه كانت هناك حياة فكرية جديّة آنذاك. كان هناك همّ القراءة لدى الشباب. ولم تكن استثناءً هي الحالات التي كان يشترك فيها عدّة منهم ـ بسبب أحوالهم الماديّة المتواضعة ـ بشراء نسخة واحدة من مجلّة “غير مصوّرة” والتناوب على قراءتها.
فماذا بقي اليوم من ذلك كلّه؟. لم يبق من تلك المغامرة الإنسانية كلّها سوى الكثير من الأحلام المحطّمة و”حفنة” من الدروس. الأحلام المحطّمة لجيل زرع الكثير من الأوهام بلباس أحلام فحصد الكثير من خيبة الأمل. فالعالم لم نغيّره بل ولم نستطع أن نحتفظ فيه على ما كان عليه و” لم تغنِّ بعدنا الصباحات”، كما كنّا قد تعوّدنا التعبير عن تفاؤلنا. بل ظلّت عابسة حزينة وازدادت عبوسا وحزنا في واقع لم يتوقف عن التردّي.
أمّا الدروس فكان استيعابها يتطلّب تجاوز سن الطفولة و”براءة” أحلام الشباب. باختصار كان لا بدّ من أخذ المسافة من الأيديولوجيات و”فبركتها” للواقع وأحكامها المسبقة لفهم أن “خصوم” الأمس، أولئك “الرجعيون” الذين صببنا عليهم نار غضبنا وحقدنا لعلّ زمنهم يستحق منّا اليوم قراءة أكثر ترويا وموقفا أكثر احتراما.
لا شك أن قلوبنا لم تغيّر مكانها ولم تنتقل إلى اليمين في صدورنا. لكن لا بدّ أن نسجّل اليوم لأولئك “الخصوم” أنهم حاولوا تثبيت مفهوم المؤسسة واحترام الدستور. ونسجّل لهم أيضا أنهم لم يفرضوا الصوت الواحد واللون الواحد والفكر الواحد، بل كانت الأصوات متعددة في زمنهم ومعبرة عن كل أطياف المشهد السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال. ولم يكن رجل الإعلام يلهث يومها وراء رجل السياسة، بل لعلّ هذا هو الذي يطلب ودّ الأول. وإذا كان الناس لا يصدّقون الإعلام اليوم عامّة… فلأنه تحوّل غالبا إلى “إعلان”.
ونسأل: ألم يكن هامش حرية التعبير آنذاك أكبر بمرّات مما هو اليوم في ظل “ثقافة الشكل” و”الأطر المرسومة” و”الفكر الجاهز” و”مصادرة حق الاختلاف” وكل أشكال “القمع” المفروض والنافذ ولو لم يكن مكتوبا؟. إن مجرّد إلقاء نظرة على ما نقرأ ـ إذا قرأنا ـ وما نشاهد على الشاشات الكبيرة والصغيرة يسمح بإدراك الفارق الكبير والنوعي بين الأمس واليوم.
ثمّ ألسنا اليوم ،أوّلا وأساسا، بحاجة إلى تعميق فكرة المؤسسة وفرض احترام القانون والانفتاح على الآخر وعلى العالم؟ ألا تبدأ معركة المستقبل من هنا في الفكر والسياسة والفن والأدب والاقتصاد وكل نشاطات الحياة؟
نعم لنا خصوصياتنا ومعتقداتنا وثقافاتنا وتاريخنا وهويتنا. ولكن نشترك مع الآخرين في الإنسانية. نتقاطع معهم. نعيش كلّنا في عالم واحد.عالم متعدد ومتنوّع، وهنا يكمن جماله وتكمن عبقريته.
البشر يتفاعلون والثقافات تتفاعل. والمعرفة الإنسانية ينبوع ثرّ لا يمتلك أحد احتكاره. ومن لا ينهل من مائه تتأخّر قافلته عن مسيرة العالم. ثمّ علينا أن نتعلّم الدروس حتّى من الخصوم.
الوطن السعودية