في الاستعادة العربية لأنظمة الاستبداد
د. بشير موسى نافع
في الجزء الأول من عمله الكبير حول ‘مصادر القوة الاجتماعية’ (1986)، يفرق مايكل مان بين قوة النظام الاستبدادي والقوة المستندة إلى البنى التحتية، وذلك في معرض المقارنة بين الدول التاريخية التقليدية ونظيرتها التي أخذت في التبلور خلال القرون القليلة الماضية، والتي تعرف اليوم بالدولة الحديثة. القوة الاستبدادية، يقول مان، ‘ترجع إلى مدى من الفعاليات التي يتمتع الحاكم وطاقمه بالقدرة على محاولة تطبيقها بدون روتين، أو مساومة مؤسسية مع جماعات المجتمع المدني … أما القوة المستندة إلى بنى تحتية فترجع إلى القدرة الفعلية على اختراق المجتمع وإنفاذ القرارات السياسية المنطقية. ما يجب أن يكون واضحاً فيما يتعلق بالإمبراطوريات التاريخية هو ضعف قوتها المستندة إلى البنى التحتية’.
فما الذي تعنيه مقولة مان لقراءة بنية الدول الإسلامية التقليدية، وكيف يمكن أن تساهم في قراءتنا لوضع الدولة العربية الآن؟
من الضروري أن نلحظ بداية أن مان صاغ استنتاجاته بناء على استطلاع تاريخ الدول الإمبراطورية الأوروبية، الرومانية، الرومانية المقدسة، ودول العصور الوسطى المتأخرة. لم تأخذ هذه الدول الجماعات المختلفة ضمن رعاياها في الاعتبار، وقد أقيمت في أغلب الحالات على الغلبة وعلى الحق المقدس معاً. في حقبات تاريخية محددة، ساهم ادعاء الحق المقدس، أو نجم عن، تحالف السلطة الحاكمة والكنيسة؛ وأصبحت الكنيسة بالتالي جزءاً من مؤسسة الحكم، تتمتع بامتيازاته وسلطته وتعاليه على طبقات وقوى المجتمع الأخرى. عندما كانت الدولة تشرع لتنظيم شأن ما، لم تكن تأخذ في الاعتبار الجماعات الدينية أو الطائفية، مثلاً، ولا التجار أو الحرفيين أو الزراع. سلطة الحكم هي مصدر التشريع، وهذه السلطة لا ترتبط ببنى المجتمع التحتية. من هذه الزاوية أمكن وصف هذه الدولة بالاستبداد. ولكن هذا النمط من استبداد الحكم كان يحمل في رحمه حدوده أيضاً. فنظراً لاستعلاء الحكم وانفصاله، لم تكن قراراته، تشريعاته، وسياساته، ترى دائماً باعتبارها منطقية ومسوغة؛ ولم تكن الجماعات المختلفة ترى أن من الضروري بالتالي إمضاء هذه القرارات والتشريعات والسياسات، والاستجابة لها.
ونظراً لأن وسائل الاتصال كانت لم تزل بدائية، ولم يكن باستطاعة السلطة الحاكمة مراقبة المجال الجغرافي والسكاني الذي تحكمه، فإن إمضاء هذه القرارات والتشريعات والسياسات كان مقصوراً على المدى الذي تصله أدوات القوة الحاكمة. دفع الضرائب، مثلاً، لم يكن يتم طوعاً، بل يفرض بالقوة المصاحبة للجباة. وإن غفلت عين الحكم أو انحطت أدوات قوته، لم يكن ثمة من وازع لدفع الضرائب. وتنطبق هذه القاعدة على شؤون الاجتماع الأخرى؛ فما لم تستدع أدوات الحكم والقوة، تركت الجماعات لتدبير شؤونها كما تريد. السلطة الاستبدادية، بهذا المعنى، كانت سلطة فوقية، لم تعمل على، ولم تكن قادرة أصلاً، على اختراق بنى المجتمع والتغلغل فيها لتأسيس شرايين اتصال حيوية بين الدولة والجماعات والطبقات والفئات المختلفة.
ثمة تشابه بين الدولة الإمبراطورية الإسلامية ونظيرتها الأوروبية، وهناك اختلافات. كما الدول الأوروبية التقليدية كانت سلطة الدولة الإسلامية محدودة. أحد أهم أسباب حدود القوة تلك، كان بالطبع بطء وسائل الاتصال، بما في ذلك وسائط نقل الأخبار والمعلومات ووسائط النقل والحركة. كما كانت تكاليف الحفاظ على مؤسسة عسكرية كافية ومتفرغة عالية نسبياً؛ وحتى أعلى مؤسسات الحكم الإسلامية كفاءة في تحصيل الموارد، مثل الدولة العثمانية، وجدت عنتاً كبيراً في الحفاظ على جيوشها في حالة جيدة، سيما بعد أن تراجعت وتيرة الفتوحات. ولكن عامل الاختلاف الرئيسي بين الدولة الإسلامية ونظيرتها الأوروبية تمثل في الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية، طبقة العلماء، في المجال الإسلامي. ففيما عدا الدوائر المتعلقة مباشرة بالحكم والإدارة (بما في ذلك قطاع من الإدارة المالية)، لم تتمتع الدولة الإسلامية بحق التشريع، الحق الذي حافظت عليه مؤسسة العلماء باعتبارها حارسة الدين والمتحدثة باسم الشريعة. ولأن الدولة، حتى أكثر الدول استبداداً وانحرافاً، أقامت شرعيتها أيضاً على أساس من الشريعة، فقد جمعت قيم الدين بين الدولة ومؤسسة العلماء وقوى المجتمع وجماعاته المختلفة؛ بمعنى أن الجميع عادوا إلى مرجعية واحدة، وتحدثوا لغة مشتركة، ورأوا العالم من منظار واحد. في الوقت نفسه، وبخلاف المؤسسة الكنسية الأوروبية، لم تنجح الدولة الإسلامية مطلقاً في تحقيق الامتصاص الكلي لمؤسسة العلماء في جسم الدولة؛ ولا نظر العلماء لأنفسهم، حتى في دولة بيروقراطية مركبة كالدولة العثمانية، باعتبارهم شريكاً في الحكم والسلطة. وظلت طبقة العلماء تراوح في مساحة وسطى بين دائرة السلطة والحكم، من ناحية، ودائرة المجتمع، من ناحية أخرى.
بهذا المعنى لا يمكن وصف الدولة الإسلامية التقليدية بالاستبداد، أو على الأقل، لم يمكن استبدادها شبيهاً باستبداد نظيرتها الأوروبية. الدولة الإسلامية لم تستطع التغلغل في قلب الجماعات المختلفة، التي تركت لتدير شؤؤونها في استقلال عن مؤسسة الحكم؛ ولكن في أغلب الحالات، لم تكن سياسات الدولة وقراراتها ترى من قبل الجماعات والفئات الاجتماعية باعتبارها غريبة أو غير منطقية. الحلقة الهامة في هذا التداخل، الجزئي بين الدولة والجماعة، يعود بالتأكيد إلى دور الجسر وحلقة الاتصال الذي تعهدته مؤسسة العلماء، والمشترك الإسلامي المرجعي بين الطرفين. كلما تعززت وجهة الدولة الإسلامية وارتفع مستوى تماهيها مع قيم الشريعة العليا، كلما اتسع نطاق المشترك بينها وقوى المجتمع وفئاته. ولكن الطبقة الحاكمة ظلت مع ذلك متعالية، وغير تمثيلية، تماماً كما هي طبيعة الطبقة الحاكمة في الدول ما قبل الحديثة عموماً.
بيد أن العالم سيشهد انعطافة بالغة الأهمية والراديكالية في بنية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، بدأت في التجلي ببطء في المجال الأوروبي منذ نهايات القرن السابع عشر. أدت الصراعات الأوروبية الداخلية إلى تشظ تدريجي للإمبراطوريات، وإلى بداية تشكل الدول القومية. وقد لعبت الحروب والتمايزات الدينية دوراً هاماً في بلورة الدولة وتأسيس شرعيات جديدة لمؤسسات حكمها. في مواكبة ذلك، ساهم التقدم الصناعي والتطورات المتسارعة في وسائل الاتصال في تعزيز الهويات القومية الجديدة، كما ساهم في تعزيز سلطة الدولة وتعظيم مواردها، سواء داخلية المصدر، أو تلك التي تدفقت من المستعمرات ما وراء البحار. في البداية، عمل تعاظم موارد الدولة ومقدراتها على تعزيز توجهاتها الاستبدادية؛ ولكن استبداد الدول ما كان له أن يستمر إلى النهاية؛ فالأمة الجديدة ولدت وهي تحتضن تدافعاً طبقياً داخلياً. وسرعان ما عملت الطبقات الوسطى ذات القوة المتصاعدة على تقويض النظام القائم، وبناء نظام أكثر استعداداً لتقبل المشاركة في السلطة والحكم. إحدى سمات الدولة الحديثة الرئيسية هو سعيها الدائم للسيطرة الكاملة على أرضها وشعبها، وبانفجار الصراع الاجتماعي الداخلي وتطور فكرة المشاركة والتمثيل، لم يعد بإمكان الدولة، حتى وهي تحتكر أدوات العنف والقوة، أن تنفذ قراراتها وتشريعاتها وسياساتها بدون حد أدنى من المنطقية والتسويغ. كان على الدولة، بكلمة أخرى، أن تصبح أكثر تغلغلاً في بنى الاجتماع التحتية، أن تصبح اكثر تمثيلاً، وأكثر استعداداً للتفاوض والمساومة مع قوى المجتمع وفئاته المختلفة، سعياً إلى تعزيز شرعيتها، من ناحية، وإلى تسويغ قراراتها وسياساتها، من ناحية أخرى. هذه، باختصار، الدولة الحديثة في نسختها الديمقراطية.
ولدت الدول العربية جميعها من رحم الدولة العثمانية، التي استلهمت النموذج الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، أو كوريثة للإدارات الاستعمارية، التي أقيمت هي الأخرى على صورة المتروبول الإمبريالي الغربي الحديث. من جهة امتلاكها لوسائل القوة وأدوات السيطرة والتحكم، وقدرتها على الوصول إلى كافة طبقات المجتمع، تعتبر الدولة العربية دولة حديثة بامتياز. وليس ثمة شك أن هذه الدولة، بالرغم من ضعفها في ميزان القوى العالمي، وأحياناً الإقليمي أيضاً، أفادت إلى حد كبير من التقدم المتسارع في وسائل الاتصال والتحكم. وسواء بفعل قدرتها الفائقة على الجباية، أو لاستنادها إلى مصادر ثروة ريعية، أو لارتباطها بالقوى الدولية واعتمادها على المساعدات الأجنبية، توفر للدولة العربية الحديثة من الموارد ما يساعدها على الاحتفاظ بمؤسسات أمنية عسكرية باطشة، مقارنة بقوى المجتمع الأخرى. وتلعب هذه المؤسسات الدور الأبرز في تأمين سيطرة الدولة وتحكمها.
كان من المفترض عند لحظة الاستقلال أن تتطور الدولة العربية لتصبح أكثر تمثيلية واستجابة لقوى المجتمع وفئاته، وأكثر تعبيراً عن إرادة الأكثرية؛ أن تصدر قراراتها وسياساتها وتشريعاتها من روتين تفاوض ومساومة دائمة مع بنى المجتمع التحتية وقواه. ولم يكن ذلك الافتراض في حينه طائشاً، فقد كانت نضالات الشعب هي التي جاءت بالاستقلال أصلاً، وهي التي جعلت ولادة دولة الاستقلال ممكنة. ولكن لأسباب يصعب التطرق إليها هنا لم يكن هذا هو المسار الذي أخذه تطور دولة ما بعد الاستقلال. ما حدث، أن الدولة العربية حافظت على خصائصها الحداثية الاستبدادية، وكفاءتها المميزة في إدارة مقدرات السيطرة والتحكم، بدون أن تطور مؤسساتها وأدواتها التمثيلية وشرايين اتصالها السياسية ببنى المجتمع التحتية. وباستكمال عملية سيطرة الطبقة الحاكمة على مقدرات الحكم والثروة خلال العقدين الماضيين، لم تعد الدولة تلقي بالاً للمجتمع الذي تحكمه. كونها مؤسسة حديثة، تصدر في كنفات هذه الدولة الصحف، وتبنى محطات الإذاعة والتلفزة، وتؤسس الأحزاب، وتعقد الانتخابات، بل ويسمح بهامش ما للخطاب المعارض. ولكن ما يحدث في أغلب الأحيان أن تترك قوى المجتمع لتقول ما تريد، بينما النخبة الحاكمة تفعل ما تريد.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي