حين يغيب المجتمع السياسي والمدني الديمقراطي يظهر امثال القرضاوي
د. طيب تيزيني
كان لخطبة الجمعة التي قدمها الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي قبل اكثر من شهر في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة, ودعا فيها الى تحريم الاحتفال بأعياد وطقوس الميلاد من قبل ناس يؤمنون بغير ما تؤمن به الاقلية “هنا المسيحية” والى تحريم التهنئة بذلك من طرف الاخرين, واللافت في ذلك ان الدكتور القرضاوي هو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, وقد تدخل الشيخ في خطبته حتى في حرية شراء المواطنين لما يرغبون فيه, فحرم بيع شجرة الميلاد وشراءها واقتناءها. بل تجرأ الرجل على تحريم تبادل التهنئة بين الناس من ذوي الانتماءات الدينية المختلفة “بين المسيحيين والمسلمين مثلا” متوغلا – بذلك – في ضمائر الناس وعواطفهم بلغة ظلامية تنحدر من عهود الظلام في اوروبا وبلدان اخرى, منها عربية واسلامية, وما زالت ذيول هذه المسألة تأخذ مداها , مما استوجب الوقوف عندها..
ولعله الاكثر اثارة ومدعاة للتساؤل في حالتنا هذه ان يقدم القرضاوي خطبته امام جموع من الناس بوضوح وبقوة, من دون تساؤل الاعلام العربي وغيره عمّا هو متاح لخطباء المساجد هنا وهناك, خصوصا حين يتجاوزون خطوط النار, التي يمكن ان تؤدي – اذا ما اندلعت – الى اغراق السفينة بمن عليها من قاطني البلد المعني, من دون تمييز هذا من ذاك, وبتعبير سياسي فان ذلك من شأنه ان يُفضي الى تفتيت الوحدة الوطنية للبلد اياه, وبتعبير ايديولوجي اعتقادي, فانه يستهدف حقوق الانسان, سواء كان مسيحيا ام مسلما, وهذا مضاد للقانون والدستور اللذين ينظمان حياة الناس, وأين في عالم عربي اسلامي مثخن بالجراح والاختراقات.
وثمة وجهان اثنان آخران للمسألة واحد تاريخي وآخر ديني. اما اولهما فيتمثل في أن من يسعى الدكتور القرضاوي الى وضعهم خارج حقل المواطنة التامة, انما هم مواطنون يتحدرون من منطقتهم وتاريخهم وهم قاطنون فيها منذ عهود قديمة, وفيها “ونعني ارض العالم العربي” اسسوا وجودهم التاريخي كعرب, وتلقفوا ديانتهم المسيحية فيها ايضا كعرب كما شاركوا بعمق في انتاج الحضارة العربية ما قبل الاسلام واقاموا امارات وايلات اقتصادية. وليس مدهشا ان نعلم ان الخليفة الخطاب الكبير رفض ان يأخذ من المسيحيين في بلدان الشام ديّة “دينية” كونهم سكانا اصليين, كا هو مهم كذلك القول بانهم حاربوا مع مواطنيهم من المسلمين وغيرهم قطعان الحروب الصليبية, اضافة الى ان فلسطين التي نشأت فيها المسيحية, كانت عربية وما زالت كذلك, ولا بدان الدكتور القرضاوي يعلم ان من ضمن من يواجه المشروع الصهيوني الاسرائيلي مواطنون مسيحيون يمتلكون الهوية العربية, ويمتلكون وجودهم المجتمعي مثلهم مثل مواطنيهم المسلمين.
ويبقى الوجه الديني الاعتقادي, ليعمق فكرة الجذور العربية للمسيحيين الشرقيين, اي لأولئك الذين انطلقوا من فلسطين وظهروا بوضوح خصوصا مع نشأة المسيحية الاولى, التي تمثلت وامتصت كثيرا من عناصر الحضارات التي تمددت في منطقة المشرق العربي, وما الذي سيفعله الدكتور القرضاوي حين يعلم – وهو يعلم – ان الاسلام اتى استمرارا لما سبقه دينيا وحضاريا عموما, وليس قطعا معه. وهذا عبر عنه الرسول الكريم, وثمة لحظات عميقة ظهر فيها احترامه العميق لذوي الاديان, منها هذا الذي يحجره الشيخ القرضاوي وارغب في ان اذكر الدكتور القرضاوي بالوثيقة التاريخية, التي انتجها الرسول مع من هاجروا الى المدينة واكتسبت العنوان الجدير بها وهو وثيقة “الموادعة معه” وثيقة او “دستور المدينة” ففيها تحديدا توادع الناس واسسوا – بدعوة ومبادرة منه – لبناء اجتماعي سياسي يجمع بينهم, مع ترك الشؤون الدينية لمرجعياتهم المذهبية »راجع, تاريخ الطبري«. لن يكون مقبولا من الاستاذ الدكتور القرضاوي ان يقال على لسانه ما نقل عنه ومن ثم, فان اغراق سفينة العرب لم يعد يكلف كثيرا في ظل الحطام الذي يلفهم..!.