صفحات مختارة

بؤس المجتمع من الفقه الظلامي

سمير الزين
كالفطر يتكاثر المتحدثون باسم الدين، بوصفهم حماته من الذين يتعرضون له من الداخل والخارج، وتتزايد الفتاوى حول قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، من جلد الصحافي، إلى قتل أصحاب الفضائيات، إلى زواج الفتيات المبكر خوفاً من الفتنة، إلى فتاوى القتل في غزة والجزائر وأفغانستان وغيرها، إلى تكفير هذا الشخص أو ذاك… الخ من الفتاوى التي صار مرجعها في كثير من الأحيان شيخ الحارة الفلانية، أو الزقاق العلاني. وكل واحد يعتبر نفسه وكيل الله على الأرض ومنفذ الإرادة الإلهية. وبات الانتساب إلى الدين مانحاً سلطات لكل من هب ودب، ولكل من أطال ذقنه، ولبس جلباباً قصيراً، وحمل سبحته وذهب إلى الجامع، حتى لو كان أمياً.
لا يمكن تفسير هذه الظواهر وغيرها، بوصفها امتداداً لتراث يمتد في الماضي لأكثر من 1400 عام، حتى لو كانت تنسب نفسها لهذا التراث. فهذه الظواهر في نهاية المطاف، هي ظواهر حديثة، ولا نجافي الصواب إذا قلنا إنها ابنة الحداثة العربية المشوهة. وإذا اعتبرنا الأديان «أنساقاً لتنظيم الحياة» كما يقول ماكس فيبر، فهذا يستوجب دراستها في الظروف الراهنة. وبذلك تكون الممارسة الدينية التي نشاهدها على طول العالم الإسلامي وعرضه، لا تخص العالم الآخر، بل تخص عالمنا الأرضي الذي نعيشه. ومن خلال هذا الممارسات المتخلفة، وتكريس أردأ ما في التجربة الإسلامية، مطلوب من العالم الإسلامي والدول التي ينتمي سكانها إلى الإسلام أن يصنع عالمه الحديث. وبدل الذهاب إلى أفضل ما في التجربة الإسلامية، من تسامح وجدل فكري يمكن أن تسهم في عقلنة الدين، ليسهم في التأسيس لحداثة مطلوبة في هذه الدول، لأن الحداثة مستقبل البشرية.
تشير الممارسة الدينية الحديثة بالمعنى السوسيولوجي إلى التعامل مع الدين بوصفه مجموعة من التعاريف والقواعد والقوالب الجامدة، التي يمكن أن نصب فيها أي قضايا. قواعد من الممكن التلاعب بها حسب الحال والطلب من خلال إسنادها إلى الدين، وبهذه العملية التسطيحية للقضايا المعقدة، يتم السيطرة على المجال الاجتماعي من خلال خطاب ديني شكلاني، وممارسات طقوسية، ومرجعيات مغلقة. وهو ما يجعل الدين متعالياً على المجتمع، ويجعل رجال الدين في مكانة أعلى من الآخرين، وكلاء للدين وناطقين باسم الله، وكل واحد أو جماعة تعتبر نفسها المرجعية النهائية المتصلة مع الله من دون وسيط، بما يدخل هذه الممارسات في تعارضات وصراعات تصل إلى التكفير في كثير من الحالات لجماعات تنتمي إلى المجال الاجتماعي والديني ذاته، وحتى تنتمي إلى الجماعة ذاتها.
تستمد الأديان الوضعية (الأيديولوجيات) قدسيتها من ارتباطها المزعوم بالعلوم، وتستمد شرعيتها من إنجازات بشرية في نهاية الأمر، فهي ترسخ نفسها بوصفها توافقاً بشرياً على «عقد اجتماعي» يحكم الجميع بإرادتهم، يمكن تغييره عبر آليات تتوافق عليها المجتمعات. أما الأديان السماوية فتستمد قدسيتها من انبثاق هذه الأديان عن الله مباشرة، وتستمد شرعيتها من تعالي الله وقدرته الكلية على معرفة كل شيء، وآليات التقديس توجد عبر الأوامر والنواهي التي يفرضها الله على عبده. فهي في جميع الحالات تأتي من خارج المجتمع البشري لتضبط سلوكه عبر هذه الأوامر والنواهي الملزمة، وليس على الإنسان سوى طاعتها دون نقاش. والدين بالنسبة لأصحابه يعني عالماً كاملاً يتمتع بقوانينه الخاصة ومنجزاً بحد ذاته، له قدرته على التعبير عن مجمل تلونات الحياة التي يجب أن تنتظم في الآليات التي تفرضها الكتب المقدسة.
الفقه الإسلامي، واحد من القوالب التي تستعاد من أجل الإجابة عن أسئلة العالم الحديث، وفي تاريخ الفقه الإسلامي ومع الشافعي تم ترسيخ النص الديني بوصفه المرجع النهائي لكل ما تفرزه الحياة الإنسانية. وهو انطلق من مقولة الشافعي التي يقول فيها «ما من نازلة إلا ولها في كتاب الله حكم» وانتقالها إلى كل المذاهب الإسلامية، أصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، أو التي ستقع في المستقبل، ما أعطى المفسرين والفقهاء سلطة غير محدودة في استنباطهم أحكام النوازل من النص القرآني، وجعل هؤلاء وسطاء بين البشر وربهم، حيث تكون فتاويهم أوامر إلهية. ساد هذا المبدأ التاريخ العقلي والفكري العربي والإسلامي في أسوأ مراحله التاريخية، ويستعاد اليوم من تلك الأيام. وهو يتردد اليوم في الخطاب الديني بكل اتجاهاته.
عمل هذا المبدأ على تحويل العقل العربي إلى عقل يقتصر دوره على تأويل النص لإيجاد حلول للمشاكل المطروحة. وهذا ما يسوغ تدخل رجال الدين في كل الشؤون الدنيوية. ويقوم التدخل على قاعدتين رئيسيتين:
القاعدة الأولى، هي أن القانون الإلهي الذي جاء في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني.
أما القاعدة الثانية، فهي أن القانون الإلهي ليس واضحاً في جميع الحالات، لذلك، فهو بحاجة إلى تأويل لاستكشاف خباياه. هذا الاستكشاف ليس متاحاً لكل البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر.
تفترض القاعدتان أن القانون الإلهي لا الإنساني هو الذي يحكم حياة البشر، ولا دور للإنسان في اشتقاق أحكام حياته في مسارها وتناقضاتها وتجاربها. فعلى الإنسان تقع مسؤولية معرفة القانون الإلهي، كما جاء في الكتاب، وضمان العمل بموجب مضمون هذا الكتاب.
إن «الحاكمية لله» هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإن دور الإنسان مجرد دور تنفيذي. وهو المبدأ الذي يحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوراتهم عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه. وهو ما عبر عنه سيد قطب الأب الروحي للحركات الأصولية «بأن الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأن الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله».
بمزاوجة مفهوم الحاكمية مع مفهوم «الفرقة الناجية» عند الحركات الأصولية، يتم إنتاج جماعة مغلقة تكفيرية. جماعة يحولها مبدأ «الحاكمية لله» إلى جماعة تدعي لنفسها الحق في تمثيل إرادة الله وتنفيذها، وهي تدعي أيضاً أن من حقها تولي زمام الحكم على أساس احتكارها معرفة مضمون القانون الإلهي ومستلزماته العملية، وامتلاك أعضائها الصفات والفضائل اللازمة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه. إن جماعة كهذه، يكمن مبرر وجودها في اعتقادها أنها وحدها المؤهلة لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وهي وحدها القادرة على تنفيذ أوامر الله ونواهيه.
[ كاتب من فلسطين
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى