حين تكون عقائد الفرادة والأصالة حجاباً لعمومية بدائية ومبتذلة
ياسين الحاج صالح
وجد العقيد معمر القذافي أخيراً (28/1/2010) أن 300 متهم إسلامي نالوا أحكاما بالبراءة أمام محاكم نظامه هم «إرهابيون» في الحقيقة، وتالياً «لا يمكن الإفراج عنهم، مثلنا، في ذلك، مثل الدول الأخرى». وبينما لا يتضح من تغطيات توفرت عن الواقعة أي سند قانوني لاحتفاظ الزعيم الليبي بسجناء برأتهم محاكم لم تشتهر باستقلالها عن السلطة السياسية، فلعل في إرادة التشبه بالدول الأخرى تلمساً لسند أو قاعدة عامة تسوغ هذا المسلك. نحن مثل غيرنا، منضبطون بعرف عالمي يقضي بحبس «الإرهابيين». ويفضل في مثل هذا المقام أن ننسى أن النظام المعني ثابر دوماً على عرض نفسه كنموذج عالمي يحتذى، ينفرد عن «الدول الأخرى» بنظامه «الجماهيري» و»نظريته العالمية الثالثة» المضمنة في «الكتاب الأخضر». التمثل بدول العالم الأخرى طيب حين يسوغ احتجاز رعايا لم تجد الأجهزة القضائية التابعة للنظام ما تدينهم به. لكنه مرفوض حين يعني أن نكون مواطنين في بلدنا، «مثلنا مثل الدول الأخرى».
هذا من دون قول شيء عن أن «الدول الأخرى» قلما تحتفظ بسجناء برأتهم المحاكم، وأن من تفعل منها كذلك ليست مثالاً يقتدى به بحال، وأن للجماهيرية العظمى شقيقات عربيات لا يفتقرن إلى «الأصالة» و«الرسالة الخالدة»، يقضي المبرؤون قضائياً سنوات طوالاً في سجونها، ويبقى المحكومون أوقاتاً إضافية فوق سنوات أحكام قضت بها عليهم محاكم استثنائية.
العبرة البسيطة التي تستخلص من ذلك أن عدالة الزعامة السياسية أسوأ بكثير حتى من عدالة الأجهزة القضائية التابعة لها. أو أن أفسد ما في النظام رأسه، على عكس خرافة رائجة تنسب السوء كله إلى بطانة الحاكم، أو إلى «أفراد فاسدين وشريرين تجدهم في كل دول العالم»، على قول سيف الإسلام القذافي، ولي العهد المنتظر لـ«ملك ملوك أفريقيا»، في كلمة ألقاها في شباط (فبراير) 2009 (استفدت على نطاق واسع هنا من مقالة لرشيد خشانة، نشرها موقع «مبادرة الإصلاح العربي» في 30/1/2010، وعنوانها: «ليبيا البدوقراطية بين التوريث والإصلاح»).
في كلمته نفسها كان القذافي الابن أعلن أن «عصر إهانة الليبيين وقمع الأفواه والتخويف والقفز فوق القوانين، كل هذا انتهى ولا مجال للرجوع للوراء»، الأمر الذي لا يبدو أن قرار «ملك الملوك» الاستمرار في اعتقال 300 بريء يصادق عليه. هل يعود ذلك إلى تنازع صلاحيات بين «المنسق العام للقيادات الشعبية» وبين «القائد»، أم بالأحرى تغليباً للمصلحة العليا للنظام الذي يراد تلميع صورة الوريث المحتمل فيه جرياً على سنة عربية آخذة بالرسوخ؟ نرجح التقدير الأخير. إذ يبدو، بحسب خشانة، أن «القذافي الأب» يحرص على «متابعة ملف التوريث متابعة دقيقة لإنهاء جميع ترتيبات نقل الحكم قبل رحيله، من دون الابتعاد عن سدة القيادة طالما ظل حياً». وهو بهذه الصفة أعلم بما هو أصلح للنظام، وبالحد الذي يتعين أن تقف عنده «مونودرامات» إصلاحية هو ملهمها ومخرجها، وهو من اختار الممثل الوحيد فيها.
قد تقتضي هذه الدراما الصغيرة هدم مجمع «سجون أبو سليم الرهيب» الذي ارتكبت فيه عام 2006 مذبحة راح ضحيتها 1200 سجين. يراد لذلك على الأرجح أن ييسر طي صفحة الجريمة، مع سهولة توافر سجون بديلة بسمعة أقل فظاعة، ويمكن الاحتفاظ فيها بمن لم يرتكبوا جرماً.
لكن ماذا يعني إبقاء أبرياء في الحجز؟ يتعدى الأمر إهانة الجهاز القضائي (يسجل لوزير العدل الليبي احتجاجه على الواقعة) إلى تشويش معنى البراءة القضائية. وبالاقتضاء المنطقي تشويش معنى الجريمة، أي امحاء الحدود بين الأفعال المدانة قضائياً والأفعال المحمودة أو المحايدة قضائياً. والمجرمون وحدهم من يستفيدون من هذا الاختلاط. ذلك أن منتهكي القواعد القانونية يعولون دوماً على التلاعب بوضوح المقولات القانونية وتشويش التمييز بين الأفعال، بما يضفي النسبية على انتهاكاتهم أو يخفف من وقع أفعالهم الجرمية، أو حتى يسوغها.
وهذا ما قد يتسبب في رفع الحماية القضائية عن الأبرياء بأن ينشر ظلالاً من الالتباس حول تصرفاتهم وأفعالهم في غفلة عنهم. وحين يكون كل معارض إسلامي للنظام مجرماً، ألا تكون هذه خدمة مجانية للأشد تطرفاً وعنفاً بين هؤلاء المعارضين؟ وحين نكون سيئين جميعاً، أليس في ذلك تسهيلاً لأمر الأسوأ بيننا؟ ومن تمييع الحدود بين السيّء والأسوأ، ما الذي سيمنع تمييعها بين السيّء والأقل سوءاً، وبين هذا والجيد؟ هذا باب واسع للاعتباط لا ينتفع منه غير القوي الحصين.
وفي السياق الليبي بالذات ألن يفضي ذلك إلى تعطيل «المراجعات» التي تقوم بها «الجماعة الإسلامية المقاتلة»، والمتجهة نحو مواقف وقراءات أقل تطرفاً؟ ألن يتسبب من ثم في توسيع من سماهم «القائد» نفسه «الزنادقة»، وميزهم باتباع بن لادن والظواهري؟
وهل هذا كله مقطوع الصلة عن شكوى القائد الملك من «تدهور فظيع» في «الآداب العامة» في ليبيا، إلى «درجة أن الشارع أصبح مثل غابة للحيوانات»؟ من المحتمل أن تكون هذه شكوى أبوية محافظة من صيغ سلوك مستجدة في المجتمع الليبي. لكن لا يبعد بالفعل أن تنحدر الضوابط الأخلاقية وتعم القسوة والفساد ويشتد ساعد الأنانية وسط ساكنة لا تأثير لها على شروط حياتها، يتمتع القوي فيها بالحصانة، ويعاقب البريء الضعيف، ولا تتاح فيها قدوة أخلاقية أرفع شأناً من هنيبعل القذافي الذي عوقبت سويسرا لأنها احتجزته يوماً إثر ضرب خادميه. كيف تستقيم آداب الليبيين العامة إن كان كبارهم ينهجون خطاً أعوج إلى هذا الحد؟
حيال هذه الوقائع الليبية (توفر مقالة خشانة المشار إليها معلومات جزيلة الفائدة عن تفاصيلها وخلفياتها) يكتشف المرء كم أن بلداننا العربية تشبه بعضها أكثر مما نعتقد ومما هو طيب، وبما يشكك في سداد مسعى الواحد منا لأن يتكلم عن الشؤون السياسية لبلده وحده، متجنباً تعميمات عقيمة، وإن تكن آمنة. في واقعنا ذاته يبدو أن ثمة ما يزكي التعميم ويناهض موجبات التعرف المدقق عليه. هل يحتمل أن أصل ذلك غلبة أشد الدوافع بدائية وغريزية في تشكيل هذا الواقع: الجشع والقوة الخام والأنانية الفظة؟ وهل تكون عقائد الفرادة والأصالة والخصوصية المزدهرة في حيزنا من العالم غير حجاب متفاوت الصفاقة لهذه العمومية البدائية المبتذلة؟
خاص – صفحات سورية –