الأصـولي هل يمكن أن يكون مواطناً؟
علي حرب
بات العالم فريسة للقلق والتوتر بقدر ما هو مسرح للصراعات والحروب اكثر من اي يوم مضى، على الرغم من كل العهود في التعليم الخلقي والارشاد الديني والتنوير الفلسفي، وربما بسبب ذلك، مما يعني هشاشة الافكار او فشلها في تشخيص الواقع أو في صنع الاحداث والتأثير في المجريات. الوقائع فاضحة وصارخة في هذا الخصوص، من صدام الثقافات الى الحروب الاهلية، ومن تفجيرات الجوامع والكنائس في العالم العربي الى سجالات الحجاب والمآذن في اوروبا، انتهاءً بحروب النصوص والاسماء بعدما تحوّل الايمان الديني عصاباً وارهاباً، بل جنون. وأي جنون افظع من أن يعتدي اسلاميون على الكنائس في ماليزيا لأن أهلها استخدموا اسم الجلالة (الله) بالعربية؟! وكان الأوْلى أن يُسَرّوا بذلك ويشكروهم عليه. يعيدنا هذا الواقع الى الاشكالية التي تحتلّ الآن الواجهة، واستهلكت المزيد من الجهد والحبر لكي نحصد المزيد من الازمات، أعني بها اشكالية الدين والحداثة، أو الدين والحرية، او الدين والدولة. المقصود بالدين هنا الإسلام وعلاقته بالمواطنة. هنا مقاربة لهذه المسألة من غير مدخل.
إن مصطلح “المواطن” اختراع اغريقي جسّد بلغة مفهومية ولادة الحيز العمومي والمجال السياسي في المدينة/ الدولة لدى اليونان القدماء. من هنا فإن كلمة “مواطن” ليست مشتقة من كلمة “وطن”، كما في العربية، بل من كلمة مدينة Polis باليونانية، أو Cité بالفرنسية. وهي تحيل على معانٍ من مثل حرية، حقوق، حاضرة، دولة، حضارة.
من اليونان انتقل المصطلح الى الغرب الحديث، والى بقية بلدان العالم، بما في ذلك العالم العربي، شأنه شأن مصطلحات اخرى، مثل الجمهورية، الديموقراطية، الفلسفة، المنطق، العلمنة، وسواها من المفاهيم والمجالات التي ساهمت في تكوين الفضاء العقلي في الحضارة الإغريقية، وباتت تشكّل رأسمالاً فكرياً هو مُلك البشرية جمعاء تستعيده وتستثمره في غير مجال من مجالات الحياة والاجتماع، وخصوصاً في المجال السياسي. بالطبع، اتسع مفهوم المواطنة في المجتمعات الغربية الحديثة، عما كان عليه أيام الإغريق، إذ كان يقتصر على مدينة، بل على شريحة من مدينة يستحق أفرادها لقب المواطن دون غيرهم، فصار هذا الحق يشمل المجتمع بكل فئاته وطبقاته. هذا فضلاً عن تطوّر الديموقراطية بأنماطها المختلفة، وذلك بحسب البعد الغالب فيها، جمهوري أو دستوري أو ليبيرالي أو تشاركي. من المفارقات في هذا الخصوص أن اليونان الذين عرّفوا الإنسان بوصفه كائناً ناطقاً عاقلاً، ميّزوا في المدينة بين يوناني وبربري أو بين مواطن حرّ وآخر لا يملك حق المواطنة.
جغرافيا المفهوم
لا مفهوم يقوم بذاته، بوصفه هوية صافية او ماهية ثابتة ومتعالية. إنما المفهوم يشكل حقلاً دلالياً له مكوّناته، وله شبكة علاقاته مع سواه. وهذا شأن مفهوم المواطنة بعناصره وسماته وجملة روابطه مع غيره من المفاهيم. إنه ذو بعد متعدد وبنية مركّبة، وذلك من غير وجه:
– لا مواطنة بلا فضاء عمومي يشكل اللغة الجامعة والامر المشترك في أي وحدة مجتمعية. هذا ما يشير اليه في الاصل المعنى الحرفي لكلمة جمهورية باليونانية (الشيء المشترك). من هنا فإن المواطن هو ابن الجمهورية بما هي مساحة مشتركة ومصلحة عامة او مشروعية عمومية. صحيح أن هناك مواطنين يعيشون في ظل انظمة ملكية، كما في بريطانيا مثلاً. لكن الملكية هي هنا شكلية، أي مجرّد واجهة تقليدية للنظام الديموقراطي والمجتمع المدني.
– تكوّنت المواطنة مع علمنة اللغة والرؤية، بمعنى أن المواطن هو من يعيش في مجتمع دنيوي لا يستمد مشروعيته من مرجعية خارجية عليا، لاهوتية او غيبية، بل يحمل المسؤولية عن نفسه فيصنع نفسه وينظّم شؤونه بما يصوغه من التشريعات والقوانين او القيم والمعايير.
لا يعني ذلك غياب الدين الذي كان موجوداً في المجتمع الاغريقي، كما هو موجود وفاعل في كل المجتمعات القديمة والحديثة. لكن المهم موقعه وكيفية عمله أو اشتغاله. ومن المعلوم أن سقراط قد حُكم عليه بالإعدام في المدينة/ الدولة بتهمة “انكار الآلهة”. وهذا مثال تاريخي يشهد على أن الدين استُخدم كاحتياط او سلطة رمزية ضد حرية المواطن في التعبير. وما أكثر ما استخدم الدين على هذا الوجه السلبي أو الاستبدادي.
– الوجه الآخر لعلمنة الرؤية هو عقلنة الخطاب. بمعنى أن المواطن هو مَن يغلّب الحجة والرأي على المعتقد المغلق والايمان الاعمى. قد يكون المواطن مؤمناً بمبدأ او عقيدة، في ما يخصه، ولكنه في الفضاء العمومي يلجأ الى المحاورة العلنية والمداولة العقلانية، من غير مصادرات لاهوتية او مرجعيات مقدسة، تحت اي شعار كان. من هنا فالعقل هو أولاً عند المواطن، وليس الأمر او الدين.
– المواطن هو من يملك قدراً من استقلالية الذات وحرية الاختيار، بمعنى أنه يشارك في الانتخاب والنقاش أو في صنع القرار وفي سياسة الدولة، عبر النظام الديموقراطي الذي يتيح له اختيار من يحكمه. من هنا رافق ولادة المواطنة الديموقراطية، ازدهار فنون الكلام وتقنيات الجدل والحجاج.
– الوجه الآخر للحكم الديموقراطي هو سيادة القانون. فالمواطنون هم نظراء بقدر ما هم سواسية أمام القوانين النافذة، مما يعني أن المواطن هو من يقيم علاقة أفقية مع نظرائه، تختلف عن العلاقة العمودية التي تربط الأب بابنه او الكاهن برعيّته. طبعاً هو يطيع رؤساءه، ولكن على سبيل الاقتناع والخضوع للنظام لا على أساس الولاء للأشخاص.
هكذا، فالمواطنة ترتكز على الديموقراطية وحكم القانون، بقدر ما تشترط المساواة الليبيرالية. من هنا تنكسر مع فكرة المواطنة انماط العلاقات الاخرى القائمة على الولاء بمختلف أشكاله، العائلي أو الطائفي أو الحزبي. في هذا المعنى لا تأتلف المواطنة مع النبوة، التي تعني أن النبي هو أولى من الناس بأنفسهم. فالمواطن هو مَن لا يستعبده شخص ميت او حي، وإنما هو مسؤول عن نفسه، بقدر ما يشتغل بصنع نفسه والمشاركة في إدارة مصيره. لذا فإن أكثر ما يتعارض مع معاني الفرد والحرية والمواطنة والفضاء العمومي هو الجمهور والحشد والقطيع والتشكيلات الفاشية أو العصبيات العنصرية.
– أخيراً، فالمواطن هو من يمارس هوية خارقة لأطر القبيلة او الطائفة او الشركة، وسواها من التجمعات الاهلية والتقليدية او الخاصة والاقتصادية. وهذا هو معنى المجتمع المدني الذي ينتمي فيه الافراد الى مدينة او دولة او أمة؛ وقد يتعدّى المواطن الأطر المحلية او الوطنية لكي يمارس انتماءه العالمي. من هنا ولادة مصطلح كوسموبوليتي الذي هو ايضاً اختراع اغريقي، إذ هو مركّب من لفظين Kosmos وتعني العالم، وPolis وتعني المدينة. المواطن العالمي، في هذا المعنى، هو من يمارس هوية عابرة للدول والأوطان. لذا فالعالمية هنا ليست هي الجامع على اساس الاخوة الدينية، ولا على أساس طبقي بروليتاري كما لدى الماركسيين. انها عالمية مفتوحة يشعر معها المرء بوحدة الجنس البشري.
واذا كان مصطلح الكوسموبوليتية قد استعيد في “عصر الأنوار”، ثم تراجع في حقبة الصراعات القومية والحروب العالمية، فإنه يعود الى الواجهة اليوم، وخصوصاً أننا نعيش في عصر المعلومة الرقمية والحداثة السيّالة والاعتماد المتبادل، وذلك حيث تتشابك المصالح والمصائر على المساحة الكونية. فالأولى أن نفكر على نحو عالمي. وهذا ما يجري، الآن، كما تشهد الاعمال والانشطة العالمية المكرسة لإدارة الشأن الكوكبي، سواء في ما خص هيئة الامم المتحدة، او المؤتمرات العالمية، مثل مؤتمر كوبنهاغن الذي عقد في خريف 2009 للنظر في مسألة البيئة.
لا يعني ذلك أن المواطن يعرى من نسب او هوية او اهل او ثقافة. فالمجتمع هو شبكة تأثيراته المتبادلة سواء بين فرد وفرد أو بين الفرد والمجتمع أو بين الجماعات. حتى الفرد الفاعل الذي يمارس حضوره وأثره في مجتمعه، إنما ينخرط في بيئة مجتمعية لها ثقافتها وقيمها وأُطرها ومرتكزاتها، بمعنى أنه يتأثر بقدر ما يؤثر، ويساهم في تغيير مجتمعه بقدر ما يتغيّر. لذا لا وجود لفرد “مجرد” من انتمائه الاهلي، مقتصر على انتمائه الى الدولة وقوانينها او الى المجتمع المدني ومؤسساته. فالذين توهموا ذلك، أنتجوا أسوأ التجمعات والعصبيات الأهلية. أياً يكن، فالمواطن الفاعل لا يعيش في قوقعة انتمائه الوحيد، إنما يمارس هوية مفتوحة متعددة الانتماء: الأسرة، الديانة، الأمة، المهنة، النقابة، الندوة، الهيئات الإقليمية أو الدولية.
الترجمة العربية
لا أساس لمفهوم المواطن في الثقافة السياسية العربية القديمة. لذا فإن المصطلح دخل الى العالم العربي مع موجات التحديث، شأنه شأن مصطلحات الجمهورية او الديموقراطية او المجتمع المدني. ما كان سائداً مقابل “المواطن”، هو مصطلحات “المؤمن” او “الأخ”، اي ما يشير الى الانتماء الى ديانة او الى قبيلة او أمة. يتضح ذلك من عبارات، من مثل “أمير المؤمنين” او “يا أخا العرب”. ولا تزال هذه المصطلحات سارية، بدليل أن بعض رؤساء الجمهوريات في العالم العربي يستخدمون عبارة: أيها الاخوة والاخوات عندما يخاطبون الجمهور او الحشود. وقد يضيفون كلمة المواطن الى كلمة الاخ، كما في عبارة: أيها الاخوة المواطنون. حتى كلمة “مدينة” فإنها لا تعني في العربية معناها في اللغات الغربية، بوصفها تشير الى أُناس تحرّروا، بقدر ما يمتلكون حقوق المواطنة. اما في العربية، فإنها تشير الى معاني الخضوع والقهر والذل او العبودية، بقدر ما هي متفرّعة من معاني الدَّيْن والدِّين، وكلاهما لا يأتلف مع مفهوم المواطنة والحرية.
في كل حال، لم يتحول مصطلح المواطنة مفهوماً مركزياً في العالم العربي، على الرغم من قيام الجمهوريات وتبني الآليات الديموقراطية. ربما احتُرمت حقوق المواطنة في الحقبة الليبيرالية الموروثة من الاستعمار، كما في لبنان او مصر. بعد ذلك حصل تراجع لصالح مفاهيم الاخ او المناضل او الرفيق او الثائر، ولا سيما مع صعود حركات التحرر الوطني وهيمنة المشاريع القومية واليسارية التي تُرجِمت حكومات ديكتاتورية وأنظمة شمولية. مع صعود الاصوليات على المسرح أُعيد استخدام مصطلح المؤمن بقوة، وأضيفت الى لائحة المصطلحات التقدمية والعلمانية مصطلحات جديدة كالداعية والمجاهد او الجهادي، وكلها ساهمت في ابتلاع مفهوم المواطن. وهذا هو مصير سائر المصطلحات الحديثة. فالجمهورية انقلبت مَلَكية، والديموقراطية أنتجت حكومات ديكتاتورية، والعلمانية تحوّلت عصبيات طائفية. الأسوأ أنه مع طغيان النماذج العقائدية والايمانية، بات المواطن الذي يمارس استقلاليته وهويته، العابرة للحدود، موضع التهمة بالكفر والاساءة او العمالة والخيانة.
المؤمن والمواطن
بهذا نصل الى اشكالية الدين والمواطَنة وسؤالها الملحّ: هل في وسع المسلم الملتزم او الاصولي ان يكون مسلماً ومواطناً؟
بالطبع ثمة من يرى بأن الاسلام لا يتعارض مع الحداثة بعناوينها وقيمها، كما يقول الكثيرون من المسلمين الذين مرّوا بمصفاة العولمة أو خضعوا لتحولات الحداثة وأفادوا من منجزاتها. هؤلاء يمارسون خصوصيتهم الثقافية بالفصل بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية او السياسية، وخصوصاً أولئك الذين يتعاملون مع الآخرين بوصفهم نظراء في الخلق، اي شركاء في الانسانية ومصائرها. ومَن هذا شأنه، يتعامل مع البعد الديني أو القدسي بوصفه ضميراً أو دخيلة أو غرفة سرية أو تراثاً مفتوحاً يتعدى المنظومات الفقهية والعقائدية، أي علاقة شخصية بالمعنى والقيمة قد تُترجَم، في صلته بغيره، نفعاً أو حقاً أو جمالاً من غير إشهار وادعاء أو تسلط واستبداد. لكن المسلمين من هذا الصنف هم اليوم أقلية، بل هامشيون وقليلو الفاعلية.
فالنموذج المهيمن الآن هو “الإسلامي”، تبعاً لتفريقي بين المسلم والإسلامي، وهذا الأخير همّه وهاجسه إشهار إسلامه والتمترس وراء هويته. يجسد هذا النموذج المسلم الأصولي الذي يعتبر الدين مشروع خلاص، ويريد تنظيم الحياة على اساس الاسلام الذي يحتلّ عنده المرجعية العليا او السلطة المطلقة في كل الشؤون والقضايا والمشكلات، صغيرة أكانت ام كبيرة. بذلك يُعامل الاسلام كهوية ثقافية بقدر ما يُعامل كدولة او حكومة او نظام سياسي او برنامج اقتصادي، أي بوصفه ينطوي على جميع الأجوبة والحلول لكل الأسئلة والمشكلات. ولا غرابة أن يكون الأمر كذلك. فالمسلم الأصولي لا قيمة عنده لقول أو فعل إلا ما يأمر به الله أو يقضي به النصّ، والأحرى القول ما يفتي به المجتهد أو المحدّث الذي يحلّ في النهاية تفسيره أو حديثه محل كلام الله.
ومَن هذا معتقده وموقفه يستحيل عليه أن يكون مسلماً ومواطناً. يستحيل عليه مثلاً أن يكون مسلماً ولبنانياً او مسلماً وسورياً او مسلماً ومصرياً او مسلماً وفرنسياً او مسلماً وسويسرياً. لأن من يفكر ويعمل على هذا النحو، يأتي الدين عنده أولاً، وما عداه يعمل لخدمته وإلاّ كان محلّ استبعاد او رفض او ادانة. بحسب هذا المنطق، فإن الاولوية عند المسلم الملتزم تصبح للنص والشريعة والفتوى والحجاب والمئذنة والمقاومة والمرشد، على الدولة والوطن والجمهورية والديموقراطية والقوانين والمصلحة العمومية والحياة المشتركة. هذا ما يصرّح به من غير التفاف او مداورة اكثر الاسلاميين الاصوليين الذين يؤكّدون أنّ الاسلام يتعارض مع الفلسفة والعلمانية، كما يتعارض مع الديموقراطية والجمهورية، بل إن البعض منهم يرفض حتى كلمة “دولة”، مؤثراً عليها مصطلح “الخلافة”.
لا أُغفل أن هناك اسلاميين يقولون بأن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، لكن هؤلاء يموّهون المشكلة، لأن المسلم الملتزم مرجعه الله والنصّ، أي ما هو مُطلق، في حين أن العلماني يعتبر أن مرجعه هو نفسه وعقله، أي ما هو متناهٍ ومحدود ونسبي. لا أُغفل أيضاً أن هناك علمانيين تعاملوا مع العقل بصورة مطلقة، وهؤلاء هم الوجه الآخر للعقل الديني الأحادي.
كذلك هناك إسلاميون أقاموا جمهورية، كما في إيران، ولكنها تحوّلت أوتوقراطية يُتّهَم فيها المعارض بأنه يخالف الله والقرآن. هناك ايضاً اسلاميون يعلنون أنهم مع حرية التفكير والتعبير، ومع مبدأ الشراكة في الوطن. ولكن لا صدقية لهم في ذلك، لأن ما يصرّحون به يتناقض مع النصوص – المراجع، كما تنقضه الممارسات والمواقف على الارض. فهم مع الحرية لأنفسهم، وضدها لغيرهم. والدليل أنهم مع حرية المسلمة في ارتداء الحجاب في اوروبا، لكنهم حيث يحكمون او يقبضون على مقاليد الامور، ليسوا مع حرية المرأة في عدم ارتداء الحجاب، أكانت مسلمة أم غير مسلمة.
قرأت ما قاله المسلم السويسري من اصل مصري، طارق رمضان، في رسالته المفتوحة التي وجهها الى اهل بلده الجديد سويسرا، باسم حق المواطنة، معترضاً على تصويتهم ضد بناء المآذن. ولكن لو كان طارق رمضان يفكر كالمرشد السابق لجماعة “الاخوان المسلمين” مهدي عاكف، لاستحال عليه أن يكون مسلماً ومواطناً. إذ الشيخ عاكف عندما سئل عما اذا كانت الخلافة تعني أن يحكم مصر رجل من خارجها، أجاب يومئذٍ بما أحدث صدمة او فضيحة، اي بما معناه: لا تهمّني مصر، لأن الخلافة هي أولى من الدول والاوطان.
الخلافة لا تعني هنا الاممية التي تتعامل مع البشر بوصفهم سواء في الانسانية، من غير تمييز على اساس العرق او الدين او اللون، ذلك ان غير المسلم في نظام الخلافة يحتل درجة دنيا، بقدر ما يستبعد من فلك الحقيقة والايمان والهداية، وربما الإنسانية. وهذا ما تقضي كل الديانات التوحيدية في تعاملها بعضها مع البعض بعقلية التكفير المتبادَل. وهذا هو منطق الدين عموماً، من حيث تعارضه مع المجتمع العلماني والمدني. وإذا كانت الكنيسة في أوروبا تتعايش الآن مع الدولة المدنية الديموقراطية، او باتت مقتنعة بالعيش في ظلّها، فلأنها هُزمت أمام موجات الحداثة وقواها أكثر من مرة، كما حصل في فرنسا بشكل خاص (1789-1905).
ثم أن المسلمين الاصوليين لا يقبلون بعضهم البعض، لأن ما يتحكم في علاقاتهم هو استراتيجيا الرفض ومنطق الاقصاء، سواء بين مذهب ومذهب، او داخل المذهب الواحد، كما تشهد حروبهم الاهلية. فكيف اذاً يقبلون الآخر، الاوروبي، او الغربي، او الصيني، او الهندي؟ من هنا فإن مشكلة الإسلام مع الغرب أو العلمانية باتت مشكلة من الدرجة الثانية. نحن إزاء مشكلة مركّبة وجهها الأول علاقة المسلم بالمسلم، ووجهها الثاني علاقته بالآخر، أكان متديناً أم غير متديّن.
لا يعني ذلك أن على المسلم أن يؤيّد العلمانية، ولا أن يصير غيره، وإنما يعني أن ما في وسعه أن يفعله هو أن يعترف بمشروعية الآخر أكان مختلفاً في المذهب أو الديانة أو الثقافة. ولا اعتراف من دون تحويل متبادل يتزحزح به الواحد عن مركزيته ويكفّ عن ادعائه امتلاك مفاتيح الحقيقية، بحيث يمارس خصوصيته بصورة مركّبة ومنفتحة، وعلى النحو الذي يتيح له بناء عالم مشترك مع من يختلف معه.
الدين هو دولة
غير أن ما يريده الإسلاميون الأصوليون، حيث يمكنهم الحكم، هو إخضاع الآخر، وإلا مصيره النبذ والنفي، او الاستئصال. وهذا هو منطق الاصوليات عموماً على اختلاف نماذجها الدينية او القومية او اليسارية. لا يعني ذلك أن التيارات الاصولية الراهنة، أكانت اسلامية أم غير اسلامية، تبغي الحكم او تعارض الدول القائمة، لأنها تريد ممارسة الدين كخشية وتقى، كحد رادع بين الانسان ونظيره، كمعاملة بالمثل، كاعتراف بتعدد الألسنة والالوان والاعراق، كتكافل وتآزر بين بني آدم، كحثّ على العمل الصالح الذي يتجاوز صراع الديانات والتأويلات. بالعكس، فهم يسعون الى اقامة دولتهم التيوقراطية وفرض سلطتهم الدينية تحت عمامة المرشد الذي هو خليفة الله ونائبه وظله على الارض. نعم، هم ضد الدولة المدنية التي يعيش فيها مواطنون احرار، عابرون لحدود الطوائف والمذاهب والاحزاب، متساوون امام القوانين والانظمة الوضعية. ولكنهم مع الدولة الشمولية التي تهيمن على المقدّرات وتحصي الانفاس وتخضع البشر بالقوة العارية، من أجل تطويعهم وتسخيرهم لدعوات مستحيلة او عقائد مدمّرة تحوّل الوعود بالفردوس اعراساً للدم. وهم بذلك يشكّلون الوجه الآخر للدولة العلمانية الشمولية، كما شهدنا نماذجها الستالينية والفاشية والماوية أو نسخها الكاريكاتورية في دول العالم الثالث.
صحيح أن الدولة التيوقراطية الشمولية تتعارض مع الدول العلمانية الشمولية من حيث الشعارات، لكنهما تتواطآن من حيث المنطق والآليات والمفاعيل، إذ كلاهما تنتج الاستبداد والخراب. كلاهما مارست التوحّش والبربرية، وهذا مآل التألّه على الارض، سواء مورس تحت ألوهة ستالين او فرنكو او ماو او تشاوشيسكو او القذافي ونظرائه من العرب والمسلمين، أو مورس تحت ألوهة نجوم الارهاب المعاصرين، ممن يدعون امتلاك مفاتيح الحقيقة والخلاص.
من هنا، أنا لست مع ريجيس دوبريه بقوله إن الدين هو فيتامين الضعفاء وليس أفيون الشعوب. لو بقي الدين أفيوناً مخدّراً لكان أهْوَن، حتى لو مورس كوهم وخداع وتمويه، إذ كان له مفاعيله الايجابية كتُقى وخشية ورحمة.
في هذا المعنى، نحن نتجاوز ثنائية الدين والدولة التي استهلكت كسواها من الثنائيات الحداثية، وخصوصاً في العالم العربي. فما نشهده هو الإخفاق من حيث ترجمة الشعارات بأضدادها، سواء على جبهة الدولة العلمانية أو في معسكر الدولة الدينية. كلاهما عمل على تدمير فكرة المواطن. وكما أن الداعية الاصولي يعتبر أن الاسلام والشريعة والفتوى والحجاب والمرشد هو أولى من الدول والقوانين والمصلحة العمومية، بل أولى من الناس والحياة، كذلك المثقف الحداثي، القومي او اليساري، بنماذجه العقائدية وتشبيحاته النضالية، انه يعتبر أن العروبة والوحدة والاشتراكية والقضية المقدسة والزعيم الأوحد أولى من كل شيء. والنتيجة ما نشهده من عنف مجتمعي واستبداد سياسي أو دمار ذاتي.
وإذا كان الدين، كما يعترف بعض رجاله، يُتخَذ دوماً كغطاء أو لباس لتبرير خطط مشبوهة أو مشاريع استبدادية أو استراتيجية قاتلة، فليس ذلك لأنه يجسّد المُثل العليا والقيم الفضلى، ولا لأثره القوي في النفوس. مثل هذا القول يتجاهل المشكلة، بقدر ما يعني الجهل بمبنى الديانة ومقتضى العقيدة الإيمانية. فإذا كان من السهل استغلال الدين لأهداف شريرة، كما يبررون، فليس لأن هناك من يسطو عليه ويقوم بتحريفه، بل لعلّة في الدين بنيوية، لا عرضية، أعني كونه يعمل على صنع أناس يُحسنون ممارسة فروض الطاعة او طقوس التبعية والعبودية.
هذا ما تفعله من جهتها الايديولوجيات العلمية والديانات الحديثة التي تتعامل مع البشر كأرقام وآلات في حشود وقطعان تمارس هي أيضاً طقوس العبادة للزعيم الأوحد والقائد الملهم. في كلا الحالين يتم تحويل الجماعات كتلاً عمياء يسهل خداعها وتضليلها، من أجل شحنها وتعبئتها وراء مشاريع تجهل محرّكاتها أو وراء شعارات مقدّسة تمسي ضحيتها. ولا عجب أن يلتقي العلماني والإسلامي والقومي واليساري، إذ يجمعهم الفكر الأحادي والمعتقد الحديدي والنظام الشمولي.
صيرورة الفكرة
في كل حال، نحن نتجاوز العلمانية الى ما بعدها، كما تجاوزنا الحداثة الى ما بعدها، في ضوء ما شهده العالم الحديث من التحولات والانهيارات والأزمات. وهذا ما أتاح لواحدنا المنخرط في نبض الحداثة أن يتكلم على طور يتعدى العلمانية الى ما بعدها. في هذا السياق نفسه يندرج كلام هابرماس، في ما بعد، على المجتمع ما بعد العلماني. لكن ذلك لا يعني العودة الى ما قبل الحداثة لإطاحة مكتسباتها، أو لتبني التصورات الدينية عن العالم، وإنما يعني فتح آفاق واجتراح إمكانات جديدة لصناعة الحياة المشتركة، بحيث يُدار المشترك أو المتحد، المجتمعي او السياسي او الوطني او العالمي، بالانفتاح على تعدّد التصورات والأنماط أو القوى والتكتلات أو الفاعليات والمشروعيات.
في هذا المعنى، يسع الواحد أن يؤمن بما يشاء، شرط أن يُحسن التعايش مع من يشترك معه في اللغة او الوطن أو البلد أو المجتمع بالمعنى الواسع للكلمة، ولو اختلف عنه في المعتقد والمذهب والرأي. فالأفكار والمعاني لا تحيل على ماهيات ثابتة أو حقائق متعالية، كما لا تُحيل على هويات صافية أو ذوات سيّدة قابضة، كما يتعامل معها التراثيون والحداثيون، وإنما هي خبرات حيّة ومعايشات وجودية تنبع من رغبة أو تتوخّى مصلحة بقدر ما تولّد معرفةً أو تنتج سلطة. وهي نحو من الكلام بقدر ما هي نمط من الاستعمال، أو تأملات نظرية بقدر ما هي تدابير عملية؛ وهي لغات مفهومية أو علائق منطقية بقدر ما هي سرديات وتأويلات من حيث علاقتها بالواقع والحقيقة؛ باختصار، إنها شبكات للقراءة لا تنفك تتوالد وتتغير، بقدر ما هي خيارات ورهانات قابلة لأن تترجم الى فعل تواصلي أو سلطة تداولية أو صيغة للعيش والعمل والبناء المشترك.
لا يعني الاخفاق على الجبهتين، التراثية والحداثية، التباكي على عصر النهضة والاستنارة والليبيرالية، عصر محمد عبده الذي كان يقول: بعد وفاة النبي لا وصاية على العقل لأحد، او عصر طه حسين الذي خسر أخصامه الدعوى ضده، بفضل القاضي المستنير، وذلك بعكس نصر حامد ابو زيد الذي اقام الدعوى ضده زميله في الجامعة، بعدما تحوّل الاستاذ مجاهداً والجامعة مسجداً.
فلا مجال للعودة الى الوراء لأن كل شيء آخذ في التغيير. فمع الدخول في العصر الرقمي والانخراط في الواقع الافتراضي، انفجرت أطر الزمان والمكان، وتصدعت الحواجز بين الدول والجماعات، فاتسعت امكانات التواصل بين البشر بقدر ما تغيرت علاقات التجاور، الامر الذي أفضى الى تعاظم حركة الانتقال بين الناس، بقدر ما جعل نقل المعلومات والرموز والصور يتم بسرعة الضوء والفكر من مكان الى آخر.
التغيرات ليست فردوساً، كما يرى اليها الحالمون والطوباويون. لكنها ليست كارثة او فزاعة، كما يرى اليها الخائفون والمحافظون. وإنما هي امكانات مفتوحة، تتوقف اهميتها وفوائدها او اخطارها ومضارها على طريقة التعامل معها. معنى ذلك أنه لم يعد في الامكان مقاربة المشكلات وحل الازمات او ادارة الهويات والقضايا او صون الحقوق والمصالح بالعقليات والمفاهيم أو المناهج والوسائل نفسها. ثمة حاجة لتغيير يطاول التوجهات والأولويات كما يطاول أنماط التفكير والعقلنة، فيما العالم يتغير بمحركاته وقواه وادواته، كما يتغير بمفاهيمه ومعاييره وقيمه. هذا ما يحدث اليوم:
فنحن ننتقل من الديموقراطية التمثيلية، العددية والموسمية، الى الديموقراطية اليومية والميدانية، التشاركية والتداولية.
كذلك المجتمع هو آخذ في التغيّر: لم يعد يفهم من خلال ثنائيات النخبة والجمهور او الزعيم والحشد او المرشد والقطيع او المنقذ والشعب، وإنما يجري التعامل معه بوصفه جملة حقوله ودوائره وقطاعاته وقواه المنتجة والفاعلة، التي يؤثر بعضها على بعض، بقدر ما تتبادل الخبرات والمعارف او تتداول في شأن تشخيص المشكلات او تحسين الأحوال.
وكما يتغيّر مفهوم المجتمع تتغيّر النظرة الى الفرد. فنحن نتجاوز الآن مفهوم الفرد المؤمن الذي يمتثل، كما نتجاوز مفهوم المواطن الذي ينتخب، نحو مواطن يبني ذاته بوصفه فاعلاً مسؤولاً ومشاركاً في بناء مجتمعه، بقدر ما هو مختص ومنتج في مجال عمله، وبقدر ما هو منخرط في المناقشات والمداولات، سواء على هذا المستوى او ذاك. فلا مواطنة من دون ممارسة فاعلية تواصلية او تداولية في الفضاء العمومي.
هذا ما يشهد به واقع السلطة. فهي لم تعد تُمارَس بالعقلية المركزية العمودية او البيروقراطية. مثل هذه العقلية تتراجع لمصلحة العلاقات الافقية، التبادلية، التداولية، الوسطية، بحيث تنفتح المستويات والمجالات والصعد بعضها على بعض، على نحو يردم الهوة بين الخاص والعام، او بين الرسمي والاهلي، او بين المحلي والكوكبي. بل إن مفهوم القوة اخذ يتغير، إذ يجري اليوم التركيز على القوة الناعمة، بعدما أوصل استخدام القوة الغاشمة الى هذا العبث والجنون والاضطراب.
وهذا شأن مفهوم “الهوية” عند مَن ينظر ويتأمل المجريات في الحياة العربية والاقليمية او الدولية. ما عاد في وسع الواحد أن يمارس هويته بصورة محلية، احادية، او مغلقة، حتى ولو ظن ذلك أو ادعى. لأن اي انجاز او ابتكار في هذا الزمن الكوكبي له بعده العالمي، بقدر ما يتجاوز الاطار الوطني كما تشهد الندوات والمؤتمرات في مختلف وجوه الحياة وأنشطتها. في المقابل، هذا شأن كل ازمة او كارثة: لم تعد تُحَلّ على المستوى المحلي الضيق، وإنما لها بعدها الاقليمي او العالمي.
وليس هذا وهماً، وإنما هو واقع محقق. فاللبناني، او المصري، او الكويتي، إنما يمارس هوية مركّبة ومفتوحة، بمرتكزها الوطني وعمقها التراثي، بأطرها العربية وأفقها العالمي، بأبعادها الاقليمية ومداها الكوكبي. وهذه هي حال اكثر الجماعات والحركات تعصباً وتطرفاً في العالم العربي، فهي على العكس مما تدّعي، إنما تمارس عالميتها بهذه الصورة او تلك، وتنسج تحالفاتها مع الخارج العربي والاقليمي او الدولي.
من الطبيعي في سياق كهذا، أن يتغيّر مصطلح المواطن، على قدم المساواة مع المصطلحات الاخرى، في ضوء التحولات التي طرأت على أنماط الانتاج واساليب الخلق، او على شبكات التبادل وأنماط التواصل، او على خرائط المعرفة ومحركات العمل.
لذا، فالمواطنة لم تعد تُفهَم او تمارَس كما كانت عليه من قبل، وإنما هي تتغيّر بقدر ما تغتني بعناصر وأبعاد جديدة: العقلانية المركّبة والبعد المتعدد، الهوية الهجينة والثقافة المفتوحة، لغة المداولة وعقلية الشراكة، منهج التوسط ومبدأ الاعتراف، الحيوية الخلاقة والادارة الفعالة.
هذه التغيرات في المفاهيم تتيح تجاوز بعض الثنائيات المستهلكة التي باتت تموه المشكلات، كثنائية الخصوصية والعالمية، او الدولة والدين، أو المتدين والعلماني، او المساواة والحرية، او الجمهورية والليبيرالية. التجاوز لا يعني النفي والاقصاء، بقدر ما يعني اعادة الوصل والربط والبناء، بمنطق التركيب والتحويل، وعلى النحو الذي يتيح ابتكار معادلات وصيغ وأطر تأخذ في الاعتبار ما ينطوي عليه الواقع من التعقيد الفائق والحراك المتسارع، بقدر ما ترى الى البعد المتعدد للشخصية البشرية. فلا شيء يخنق الحرية ويدمّر المواطنة او يشلّ الطاقة اكثر من البعد الواحد، سواء أكان الشعار الله ام الانسان، السوق ام العدالة، الحرية ام المقاومة.
أيا يكن، فالتحولات العالمية تفتح امكانات جديدة للتفكير والعمل والبناء، تماماً كما أن الازمات والصدمات فرصة لكي يتغير الواحد عما هو عليه. وهذا ما يؤمل بالاجيال الجديدة من الشباب أن يفكروا فيه او ينجحوا في انجازه، كي لا يفوّتوا الفرصة او يفشلوا في اعمال النهوض والاصلاح والتقدم كما هي حال أجيالنا.
فالأحرى أن يتصرف المواطن الفرد، أياً تكن خصوصيته، من خلال وجوهه المختلفة وانتماءاته المتداخلة وتجاربه الغنية وتقلباته المحتملة، كمختص ومنتج، كمسؤول وفاعل، كوسيط وشريك. فلا وجود في النهاية إلا لما هو فردي وخاص. أما الجمع او الاجتماع فهو بناء مشترك يقتضي الصناعة والتحويل والتركيب؛ انه ما لا ينفك يتشكل ويتخلق او يبني ويتراكب او يتوالد ويتفاعل، من الروابط والعلاقات او الاطر والمؤسسات او المساحات والفضاءات او اللغات والشيفرات.
مَن هذا شأنه، إنما يتعاطى مع نفسه بوصفه صاحب هوية، حية بقدر ما هي مركبة، وخلاقة بقدر ما هي غنية بخبراتها الوجودية، وبناءة بقدر ما هي مشدودة نحو المستقبل، وراهنة بقدر ما هي عابرة للحدود. فالمواطنة الناجحة والفعالة هي اليوم ثمرة الهوية الهجينة والكوسموبوليتية المفتوحة على تعدد اللغات والادوار او الازمنة والفضاءات
النهار