تهريب الحلول والمشكلات!
سليمان تقي الدين
عادت الملفات الخلافية إلى واجهة الحياة الوطنية. تعديل سن الاقتراع يحسب من زاوية التوازن الطائفي. قانون البلديات يعيد الجدل حول تقسيم الدوائر الانتخابية وضمانة التمثيل الصحيح. قانون الجنسية وحقوق المغتربين مسألة قديمة متجدّدة. ايجاد ضوابط لخلق هوامش ولو محدودة لاستقلال الإدارة في موضوع تعيينات الفئة الأولى لا يلائم المرجعيات لتثبيت نفوذهم. النص الدستوري الذي يشكل المرجع الأعلى الناظم للحياة السياسية يحتاج إلى تسويات ومفاوضات لتنفيذه. نظامنا السياسي يفشل في انتاج كتلة وطنية لإدارة البلاد وتوحيدها ومعالجة مشكلاتها. لا يحصل التغيير إلا بواسطة العنف الأهلي. تحجّر البنية الطوائفية يحتاج إلى صدامات وانكسارات، وبعد كل تسوية لا يراكم اللبنانيون على «المثالات المشتركة» أو على «اجماعات الأمة». الذاكرة اللبنانية مشتعلة دائماً بالحراك الطائفي وتأثيره على حقوق ومكتسبات أو انكماش الموقع والدور والنفوذ والسلطة. لا يستقر متحد سياسي إلا على خلفية الانسجام والتجانس في هوية واحدة لشعب أو أمة، أو من خلال المواطنة التي تجمع الحرية إلى المساواة في الحقوق والواجبات والولاء للدولة. في الحال اللبنانية انتفت هذه المرجعية التوحيدية لأن اللبنانيين ليسوا أمة وليسوا مواطنين. مشروع «القومية اللبنانية» الفكري والسياسي فشل لأنه حاول اصطناع هوية ثقافية مستقلة لا يجمع عليها اللبنانيون أفراداً وجماعات، ولأنه انطبع بصورة طائفية. لا ترتقي اللبننة الايجابية إلى مستوى الأمة أو الهوية الوطنية الجامعة بسبب نقيضها الطائفي. ليست الطوائف كبيئات ثقافية العائق الأساسي أمام الاندماج الوطني، بل تحويلها إلى كيانات سياسية ورفعها إلى مستوى السلطة المادية المصفّحة بالقانون وليس الالزام الأخلاقي المعنوي. التصدي لمسألة الانشطار الطائفي بما هو معطى ثقافي ينطوي على مستوى كبير من قداسة المفاهيم والقيم، يختلف تماماً عن التصدي لنزوعها السلطوي السياسي تجاه الآخر. لا تعالج الطائفية بالإطلاق إلا بنزع أظافرها السياسية لكي تتم المحاورة بينها بلغة الحياة المسالمة والهادئة وعلى قدم المساواة بين ما تطرحه من أفكار وتصورات وبين حاجات الناس الفعلية. من يقترح قلب المعادلة لعلمنة المجتمع قبل النظام السياسي والدولة إنما يغذِّي البعد الديني للصراع. لا مجتمعات معلمنة بالكامل في أي مكان حتى في ظل أنظمة القسر الإلحادي. الإنجاز الحقيقي في العالم هو في تنحية الدين عن السلطة المطلقة على ضمير الفرد أو الجماعة. الطائفية هي الوجه السلطوي للدين، بل الوجه القبلي العصبوي. الطائفية ليست الدين الذي يمكن ان يكون هوية شعب أو ثقافته الوطنية، أو لجزء منه. لا يكبح الوجه السلبي من الحضور الطاغي للدين في السياسة إلا الدولة المدنية، تلك التي تضمن حقوق الأفراد وحرياتهم.
نظامنا الطائفي لم يوفر ضمانة لأحد. كان وما يزال يحرّض على المغالبة والغلبة. تاريخ لبنان الطائفي هو تاريخ صعود جماعة وتراجع أخرى. لا تتوقف شهية الطوائف طالما هي أدوات ومؤسسات السلطة. علينا أن نتوقع من خلال المسار الطائفي الذي بدّل الجغرافيا والديمغرافيا مستقبل الكيان اللبناني.
من يستخدم هذا التاريخ ذريعة أو من يستخدم المناخ الإقليمي للتمسك بالمزيد من القواعد الطائفية إنما يبحث عن انكسارات جديدة في الاجتماع اللبناني. على العكس من ذلك لا يمكن صد الموجة الأصولية المتنامية إلا بتعميق وتجذير المناخ الليبرالي المدني الديموقراطي. ليست الدولة المدنية طبعاً مجرد إزالة للحدود والضوابط السياسية، بل هي في الأساس الضوابط المدنية الصارمة القائمة على حقوق الأفراد وحرياتهم بدون إنكار لحقوق الجماعات وحرياتها. ما يسميه البعض «التوازن الوطني» كضمانة للعيش المشترك وهم تعرّض ويتعرض كل يوم إلى الاختلال التدريجي الذي تنتج عنه انكسارات وخيبات ويؤدي إلى المزيد من الانكفاء عن مسرح الشراكة والحضور. لا تعالج مشكلات من هذا النوع من خلال طروحات التجنيس أو التوطين أو رفضهما. أو من خلال الدفاع عن هذه أو تلك من مواقع السلطة الفوقية التي تتحول إلى أضعف فريق في المواجهة. هذه سياسات قصيرة النظر لا رؤية وطنية ولا إنسانية فيها. سياسات تهريب المشكلات أو الحلول لا تخدم الاستقرار أو التقدم. حصل تجنيس في لبنان عهد الانتداب ومطلع عهد الاستقلال من لون معيّن، وحصل مرسوم التجنيس عام 1994 في اتجاه مقابل وكان التفافاً على مطلب تحديث قانون الجنسية. استعادة الجنسية للمغتربين أو حقهم في الاقتراع أو سوى ذلك من إجراءات لا تضرب عند الجذور، لا تعالج مشكلة الهجرة أو النمو السكاني، ولا هي بالأصل تعزز الانتماء للوطن. ثمة أفق إنساني وطني وحيد هو البناء على المساواة بين اللبنانيين في الحرية والكرامة.
السفير