المشكلة الصين أم ايران؟
امين قمورية
قبل ان يتفكك الاتحاد السوفياتي ويختفي عن الخريطة الكونية كقطب ثان قوي، بدأت انظار الاستراتيجيين الاميركيين تتحول الى الصين كخصم قوي للولايات المتحدة على الساحة الدولية.
وعلى رغم تظهير واشنطن اعداء جددا في فترة ما بعد الحرب الباردة كي تبرر هيمنتها، مثل الارهاب والاصولية الاسلامية و”محور الشر” والخطر الصربي، ظلت العين الاميركية مركزة على بيجينغ كخليفة محتملة لموسكو في لعبة الصراع الدولي، ذلك ان لدى الصين كل المقومات اللازمة لمشاركة واشنطن في التربع على قمة النظام العالمي او لمنافستها عليها: طاقة بشرية هائلة، نمو اقتصادي مذهل، برنامج اصلاحي ناجح، عملة رخيصة ويد عاملة فنية ماهرة ارخص، بنيان تنظيمي وانضباط حديديين، تطور صناعي وزراعي استثنائي، واحتياط مالي وفير، وعلاقات دولية نشيطة ومتغلغلة.
وفعلا، وبعد مرور عقدين على سقوط القطبية الثنائية، حدث ما توقعه بعض المنظرين الاميركيين: الصين تحل محل اليابان كثاني أكبر اقتصاد في العالم لتبدأ مزاحمة الولايات المتحدة على المرتبة الاولى، وتحافظ على نمو اقتصادي يبلغ أكثر من عشرة في المئة غير آبهة بالأزمة الاقتصادية العالمية، ويزداد طلبها على النفط بوتيرة متسارعة لتشغل بال العالم وخصوصا اميركا التي باتت تخاف على امنها النفطي وخصوصا اذا ما وقع “الشر المستطير” بالنسبة الى واشنطن والمتمثل بالتواطؤ الصيني – الايراني الذي قد يغير المعادلات في منابع الطاقة بين اسيا الوسطى والسودان مرورا بالخليج.
خلال عقدين كانت الازمة محتدمة، في العلن، بين واشنطن وايران على مسائل كثيرة في مقدمها الملف النووي. اما في السر، فكانت الصفعات الاميركية القوية توجه الى بيجينغ وليس الى طهران: احتلال افغانستان ( ايران استفادت من ازاحة طالبان في حين حط الجيش الاميركي على الحدود الغربية للصين)، فتح ملف حقوق الانسان، منظمة التجارة العالمية، ارتفاع اسعار النفط، تأجيج قضية التيبت، اثارة عصبية تايوان. وكانت الصين ترد بطريقتها “الناعمة” اصرارا منها على الحفاظ على سعر مخفوض لـ”اليوان” والاقتحام “الحريري” للاسواق الجديدة في افريقيا واسيا واميركا اللاتينية وسحب البساط من تحت ارجل النفوذ الاميركي في القارات الثلاث.
وعلى رغم محاولة اوباما فتح صفحة جديدة مع الصين التي لم تكن متحمسة لعودة الديموقراطيين الى البيت الابيض كرها بهم لا حبا بالجمهوريين، فان زيارته التاريخية لها في الصيف الماضي وخطبه ودها في الامم المتحدة، لم يغيرا في حقيقة ان بين واشنطن وبيجينغ “ما صنع الحداد”.
وهكذا، مع اشتداد الازمة مجددا مع طهران ومحاولات فرض عقوبات عليها بالاجماع في مجلس الامن، كان يفترض في واشنطن ان تراعي مصالح بيجينغ الوطنية لكسب ودها في المسألة الايرانية، واذ بها تفعل العكس حين اثارت غضبها بابرامها صفقة اسلحة متطورة مع تايوان لا تخل بموازين القوى في المضيق فحسب بل تمس بالكرامة الوطنية الصينية وتخدشها. اكثر من ذلك لوحت واشنطن بورقة ثانية لا تقل استفزازا عن الاولى هي اعتزامها عقد لقاء بين الرئيس أوباما وزعيم التيبت الدلاي لاما، في موضوع داخلي شديد الحساسية بالنسبة الى الصين.
كان يمكن تفسير ما جرى، بأنه محاولة من واشنطن للضغط على بيجينغ لانتزاع تعاون “قسري” منها لامرار العقوبات ضد ايران في مجلس الامن بعدما عجزت عن انتزاع تعاون “طوعي” منها في هذا الشان. لكن هذا التفسير سرعان ما تبخر عندما كشفت هيلاري كلينتون في دافوس حقيقة النيات الاميركية بتحذيرها الصين من أنها بمعارضتها فرض عقوبات على إيران تهدد بحرمان نفسها إمدادات النفط من الخليج. وعلى رغم تعدد التفسيرات التي ألحقت بهذا التصريح، إلا أنها المرة الأولى التي تتحدث فيها واشنطن صراحة عن إمكان وقف واردات الصين النفطية إذا لم تماشها في موضوع العقوبات على إيران.
ومن يدري، ربما تكون واشنطن تفاوض طهران ايضا من تحت الطاولة على “تسهيلات اميركية” في ملفها النووي والاقليمي في مقابل “تعقيدات ايرانية” في امداد الصين بالنفط. وهكذا تكون اميركا قد حققت مكسبين في ان واحد: استمالة ايران، وابعاد الصين عن المنازلة الاقتصادية الكبرى بتعطيشها نفطيا.
النهار