صفحات العالمموفق نيربية

مأثرة الصين ومعضلتها بين الاقتصاد والسياسة

موفق نيربية *
في عام 2032، قالت الرئيسة الأميركية ماري مارتينيز «إذا كان اليابانيون لا يرغبون بوجودنا في أوكيناوا، فليسن من حقنا البقاء إذاً». يتخيل كاتب أميركي ذلك. ثمّ يتحدث عن عام 2040، حيث توتر الوضع بين اليابان – التي أصبحت دولة نووية بالطبع – والصين التي غدت الأولى في العالم، بعد تراجع الولايات المتحدة، وانسحابها من ممارسة عضويتها الدائمة في مجلس الأمن» لنخرج من الجدالات العقيمة حول أمم في أقصى الأرض لا تحتاج إلى مشورتنا». وبعد استعراض هموم الصين عندئذ، ومنها التوتر بين الكوريتين، وتهديد كيم جونغ – أون (حفيد أو ابن حفيد كيم إيل سونغ) بتحويل سيؤول إلى منفضة سجائر، يخلص إلى تصريح لوزارة خارجية بلاده، يأمل في أن تستطيع بكين إنقاذ وقف إطلاق النار الهش في غزة، بعد أن توسطت الصين بين الإسرائيليين والفلسطينيين للاتفاق عليه.
وعلى رغم الكلمات الأخيرة أعلاه، فحديثي ليس عن فلسطين. إلا أن اللافت أن الصين تتحول إلى الشريك التجاري الأول للبلاد العربية، فبعد الحادي عشر من أيلول 2001، واشتعال الحرب على الإرهاب وتعلّق قلوب عربية بمعارك أفغانستان فالعراق؛ استدار التجار 180 درجة، وذهبوا إلى الصين التي تمنحهم الفيزا في أقل من 24 ساعة. مدينة يي-وُو الساحلية المتوسطة الحجم، أصبحت تحوي ثلاثة مطاعم عربية عام 2004، ثم عشرين عام 2008. السياسة تنعكس على التجارة مباشرة، لكن التجارة لا تنعكس إلا متأخرة على السياسة، وهي تفعل ذلك بعمق.
حققت الصين نمواً يعادل 8,7 في المئة عام 2009 على رغم الأزمة المالية العالمية، بتأثير الاندفاعة الخاصة بها نفسها التي ستبدأ بالمعاناة بسببها. فهناك التضخم الحالي والمتوقع، والبطالة والفقر، وتزايد الهوة عمقاً بين المدينة والريف، وكلها نتائج للتطور السريع. 30 في المئة من سكان الصين هجروا الريف خلال عشرين عاماً، وبوزن البلاد السكاني الهائل يمكن توقع الصدمة الكبيرة التي يصنعها هذا التحول.
الصين تتقدّم بانتظام واثق الخطى إلى المركز الأول اقتصادياً في العالم، لكن «حكومتها» مصممة على موقفها الدفاعي السلبي في سياساتها الداخلية، وعلى «التطنيش» في السياسة الخارجية. تنتظر من يسألها رأيها ولا تجيب بما يفيد غالباً.
داخلياً، بين عامي 2000 و2008 ظهرت 2000 صحيفة و9000 مجلة و287 محطة تلفزيونية، و338 مليون مستخدم للانترنت، و180 مليون مدون. هنالك 700 ألف صحافي، وصدر أكثر من 300000 كتاب من مختلف الأصناف. وأكثر من 345000 مليونير، وضعف هذا العدد من المديرين التنفيذيين الذين يقبضون وسطياً حوالى 20 ألف دولار في العام. هنالك طبقة غنية وأخرى وسطى تتبلوران.
الليبرالية الهجينة في السياسة الاقتصادية لن يسهل ضبط مفاعيلها المتزايدة. والانفتاح على العالم لن يبقى محصوراً في الميدان التجاري وحده. وعلى رغم أن التطور المختلف سينعكس في شكل مختلف سياسياً، إلاّ أن هنالك معالم نمطية تتعلّق بالحريات لن يستطيع الحزب الشيوعي الذي فقد «ظهره» الإيديولوجي أن يتعامل معها.

خارجياً، ستنتقل الصين إلى التعامل السياسي الإيجابي. فهنالك دور مفروض في حالة العولمة، لا يمكن الاكتفاء بالدفاع فيه لفترة طويلة. العالم سيطلب المواقف، والمواقف ستدخل في المساومات، والكبير لا يستطيع إلا أن يلعب على قياسه.
منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، تقوم السياسة الخارجية الصينية على مبادئ خمسة غالباً. وإذا وضعنا جانباً الكرامة الوطنية والموقف من هونغ كونغ وتايوان مع تأييد السلم والتعايش السلمي، لا يبقى بارزاً إلا التشديد على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية مترابطاً مع حرية انتقال البضائع والتكنولوجيا ومقاومة الحقوق الفكرية. في حقل السياسة توجد مقاومة صلبة لانتقال الليبرالية من الخارج إلى الداخل، ومطالبة صلبة بليبرالية «متوحشة» لا تخضع لضوابط في العلاقات الاقتصادية، بانتقال التكنولوجيا نحو الداخل، والبضائع إلى الخارج.
«نظرية اللعبة» في العلاقة مع الآخرين، التي تختار الصين دوماً منها شكل «اربح أنت وغيرك» ليخرج الجميع مسرورين، لا يمكن أن تستمر معزولة عن الآثار السياسية في الداخل ومع الخارج. فربما يتحول «اللعب» إلى مبدأ «رابح وخاسر»، أو حتى إلى «خسارة الطرفين» في ظل الحماقة التي قد تحكم السياسة الدولية، كما حدث في السنوات القليلة المنصرمة.
المشكلة الأخيرة مع غوغل والولايات المتحدة مظهر صغير لمشكلة أكبر ستظهر وتتعدد أشكال ظهورها، ليس بالمعنى السياسي وحده. هنا سؤال جديد قد يتضخم حجمه باطّراد، فهل يمكن الصين أن تستغني عن غوغل وما قد يتبع ذلك؟ ذلك يضيف مشكلةً إلى حقيقة أن الصين ستصبح مساوية ثم متقدمة اقتصادياً على الولايات المتحدة، لأنها ستعجز عن تدارك آثار هذا التقدم داخلياً، وعن تحمّل تبعاته خارجياً. ويحتمل أن ينضم هذا إلى مجموعة المشاكل الدولية المهملة عملياً، ليؤكد إمكانات الكارثة المتعددة الأشكال في حياة الكوكب المعني.
الليبرالية الاقتصادية محلياً لا تستطيع أن تعوض بمغالاتها عن الحاجة إلى استنباط شكل ما – خاص بالصين الخاصة الصفات – من الديموقراطية. والليبرالية الاقتصادية خارجياً لا تستطيع أن تعوض بمغالاتها عن الحاجة إلى موقف مسؤول، يتجاوز العناد والسلبية والغطرسة، ويقوم بدوره المفترض بتطوير أو تأسيس ديموقراطية دولية جديدة. هذا ما يُنتظر من الصين، وهو انتظار نظري حتى الآن.
وفي خارج الصين، هنالك خطر التنافس والشراهة التجارية المشهودة لدى الولايات المتحدة والكتل الأساسية الأخرى. إلا أن هنالك احتمالاً لتزايد الضغط الذي يشكله حجم مشاكل بيئة الكوكب، والطبيعة التفاعلية لأزمات الاقتصاد العالمي، وربما انتعاش عامل القيم الإنسانية. قد يكون لذلك تأثيره في العقلانية في التعامل مع المسألة الصينية، فيكون هنالك تقدير لخصوصيتها من جهة، ودفع منتظم لها باتجاه التناغم مع خطى العالم نحو مستقبل آمن يمكن العيش فيه.
أما حكومات العالم الثالث كما يُسمى – ونحن العرب في قلبه النابض – فهي تـتـعامل مع المسألة بسطحية أكبر، محتميةً بفكرة أنها غير معنية إلا بما يحفظ عليها يومها، واستمرار ركودها بسعادة وهناء.
فهي معجبة بالصين التي تشكل مصرفاً للعقد التي تتجمع أمامها، في الاقتصاد والسياسة معاً. وتلجأ إلى نبع الاستهلاك الفوار في بكين لتلبي حاجة أغنيائها وفقرائها معاً، وإلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي لا يتم اللجوء إليه إلا حين يُمارس في حقل الحريات وحقوق الإنسان، وهو حقل غريب مكروه، فكيف إذا كان من يتدخل فيه غريباً مرذولاً وظاهر العدوانية، أكان استعماراً كافراً وطامعاً في ثرواتنا، أم رعية كافرة – أيضاً – طامحة إلى الحرية والمشاركة في صنع حياتها.

* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى