صفحات العالمميشيل كيلو

لعب أولاد

ميشيل كيلو
قبل خمسين عاماً، كان الأمريكيون يظنون أن على من يريد كسب حرب العصابات ممارسة قدر من العنف أكبر مما يمارسه الطرف الثائر، وحجتهم أنه يجبر الشعب على تأييده بالعنف والقوة، فلا سبيل إلى مواجهته بغير استعمال قدر من العنف ضد الشعب يفوق عنفه، لإجبار مؤيديه على الانفكاك عنه، وتوجيه عنف كاسح إليه، لإرغام مقاتليه على التخلي عنه. بنجاح هذا العنف المزدوج هكذا فكر الأمريكيون  ينهار الطرف المقابل لا محالة، وينتصرون هم.
هذه الوصفة، التي كانت عين الحكمة قبل نصف قرن، تعتبر اليوم عين الحماقة وسبباً مباشراً لخسارة الحرب، في رؤية استراتيجية الجنرال الأمريكي ماكريستل، قائد الحرب ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان. يقول الجنرال: إن إبعاد الشعب عن طالبان يتطلب حسن معاملته وتنمية اقتصاده وتعزيز تربيته وتعليمه ورعايته الصحية.. وترك المواطن العادي لشؤونه وتجنب الضغط عليه، كي لا ينضم إلى صفوف العدو. في الوقت نفسه، وهذا هو الشق الثاني من الخطة القديمة/ الجديدة، يجب ممارسة أقصى درجة ممكنة من العنف ضد مقاتلي طالبان، للقضاء عليهم أو لإقناعهم بلا جدوى القتال. بهاتين السياستين المتناقضتين، يصير النجاح مضموناً: تفشل طالبان من جهة في إغراء الشعب بالانضمام إليها فتجف مواردها من المادة البشرية الخام، ويتخلى الشعب عنها من جهة مقابلة فيسهل ضربها والقضاء عليها.
ما إن بلغت هذه الخطة العبقرية مسامع رئيس أفغانستان حامد قرضاي، حتى أضاف إليها لمسة شخصية لا تقل عبقرية عنها، تعد مقاتلي طالبان بإيجاد فرص عمل لهم وبإعطائهم مبالغ من المال، إن هم قبلوا مصالحة السلطة القائمة، وانضووا فيها وتخلوا عن العمل المسلح. قال الرئيس هذا وهو يؤكد الأسبوع الماضي لسامعيه في اسطنبول أن كثيراً من مقاتلي طالبان انضموا إليها لأنهم كانوا عاطلين عن العمل، وأنه يكفي لفكهم عنها تأمين فرص عمل لهم، أو تقديم وعود بهذا المعنى، فإن رفض بعضهم العرض المغري، كان المال له بالمرصاد، فتنهار مقاومته ويتلاشى كرهه للأجانب وللمحتلين، ويسارع إلى الالتحاق بالحكومة. يرى قرضاي أنه لا مفر من إعادة النظر في توزيع أموال الغرب، الذي أنفق خلال السنوات الثماني الماضية عشرات مليارات الدولارات في أفغانستان، ولا بد من تخصيص جزء منها لطالبان التائبة، على أن يواصل القسم الأكبر منه وصوله إلى جيوب الوزراء، وحكام الأقاليم، وقادة العصابات، وضباط الجيش والشرطة، الذين يرون في رئيسهم قدوة في الفساد، مع أنه كان قد تعهد مرات عديدة بالإقلاع عن عادته في سرقة الأموال العامة، وبمنع ضباطه وحكام ولاياته من بيع أسلحتهم وسياراتهم إلى طالبان، وحصل على تعهد من بعض هؤلاء بعدم بيع ما يعرفونه من معلومات حول الهجمات الأمريكية  الأطلسية إلى العدو، مقابل مال تحصل الحركة عليه من تعهد قدمته بدورها إلى الجنود الفرنسيين والطليان والألمان، ممن قدموا إلى أفغانستان لمحاربتها وتحرير الشعب من نظامها الأصولي، بعدم شن هجمات عليهم، ما داموا يدفعون لها المال ولا يعرقلون عملياتها ضد قوات الحكومة في مناطق انتشارهم.
بأية أعين عمياء يرى الأمريكيون الواقع، وبأية رؤوس فارغة يفكرون؟ ألا تبدو خطط جنرالاتهم أقرب ما تكون إلى لعب أولاد صغار منها إلى فن الحرب؟ هل يصدقون أن مشكلة طالبان هي مشكلة بطالة، وإلا فهي مشكلة ذمم فاسدة تقبل التخلي عن بنادقها مقابل شيء من المال يتلقونه من أيدي حكومية فاسدة؟ ألا يرون أنه ليس هناك ما يجبر مقاتلي طالبان على بيع أنفسهم، ما داموا يحرزون انتصارات يومية على أعدائهم، ويدخلون القصر الجمهوري في كابول ويخرجون منه على هواهم، ويحتلون ويفجرون ويكرون ويفرون في شوارع ومصارف ومحاكم عاصمة قرضاي كما يحلو لهم. بينما يقر الجنرال ماكريستل أنهم يسيطرون على 13 ولاية أفغانية، حيث لديهم عمل كثير ومبالغ وفيرة من المال، يدينون بها لبنادقهم تحديدا، التي يريد قرضاي شراءها، متجاهلا أو جاهلا أنها تسيطر على تجارة المخدرات، التي تمدهم بأموال توفر عليهم ذل قبول مبدأ الرئيس: “العمل مقابل البنادق”، مع أن لديهم عملاً كثيراً أداته هذه البنادق، ومالاً كثيراً حصلوا عليه بفضلها؟
لن يسلم مقاتلو طالبان أسلحتهم مقابل العمل أو المال. هذا أمر يعرفه الجميع. ولكن، ماذا سيكون جواب الرئيس إن اشترطت طالبان  لتسليم بنادقها  تشغيل ملايين العاطلين الأفغان، الذين لا يقاتلون معها، وينعمون بالفقر في ظل حكومته الفاسدة؟ وهل يمكن أن تنتصر أمريكا بحلفاء من أمثال هذا الرئيس، الذي يبدو أنه لا يقل ذكاء عن جنرالاتهم، الذين يرسمون خططا غير قابلة للتنفيذ أو التحقيق، يعتقدون أنها ستكفل لهم النصر لمجرد أنها تبدو منطقية ومنسجمة على الورق، كأنه يمكن تقويم ما في الواقع الإنساني من اعوجاج وأخطاء وعيوب بواسطة خطط ورقية، أو يمكن التخلص من المآزق بمثل هذه الخطط، أو يمكن إقناع البشر بترك آمالهم وطموحاتهم، لأن خطط أعدائهم الورقية تتطلب ذلك.
لن تسلم طالبان بنادقها. لو أرادت فعل ذلك، لفعلته قبل سنوات، عندما عرض عليها الأمريكيون التخلي عن القاعدة مقابل بقائها في الحكم وعدم شن الحرب عليها، فرفضت العرض وفضلت العودة إلى نقطة الصفر سلطوياً، كي لا تعود إلى ما دونها بكثير عقائدياً. ولن تفك طالبان تحالفها مع القاعدة، لأنها مثلها، ليست في حال تراجع عام، بل هي تتقدم وتوسع نشاطها في أفغانستان، بينما تخوض القاعدة خارجها المعارك بعزيمة وتصميم وتوسع عملياتها وتنقلها من بلد لآخر، ولا يبدو أنها أصيبت بالوهن أو أن معنوياتها ضعفت، كما يزعم الأمريكيون.
وإلى أن يقرر مقاتلو الشعب الأكثر شراسة وتصميما ووطنية على مر التاريخ التخلي عن بنادقهم مقابل العمل والمال، سيكون جيش أمريكا وحلف الأطلسي قد بلغ حافة الانهيار على أيديهم، ومعظم جيش قرضاي قد التحق بهم، بعضه كي يخوض معارك النصر الأخيرة معهم، وبعضه الآخر بحثا عن عمل ومال، قبل النصر وبعده.
يحقر قرضاي وطنه وشعبه، حين يتحدث عن المعركة الدائرة في أفغانستان وكأنها معركة تمليها بطالة المقاتلين ويديمها فقرهم. ويستخف كثيرا بعقول الأمريكيين، عندما يضيف إلى خططهم البائسة توابله المحلية، التي تزيد طبختهم الفاشلة فشلاً. لن يستسلم الأفغان لأنهم فقراء. إن فقرهم لا ينسيهم وطنيتهم، ولا يدفعهم إلى البحث عن بدائل للدفاع عن حقوقهم وكرامتهم واستقلالهم. ويشد من عزيمتهم في القتال دخول أمريكا والأطلسي في نفق مظلم، لن تخرجهما منه خطط ورقية يقدمها جنرالاتهم أو اقتراحات همايونية يمدهم بها قرضاي، وأن خير ما يفعله أوباما هو مفاوضة طالبان ليس على إيجاد فرص عمل للتائبين منها، بل لسحب جيوشه من بلادها، التي هزمت وقهرت كل من حاول احتلالها، على أن يشتري حكومتها بعد التحرير، جريا على عادة الحكومة الأمريكية مع حكومات أجنبية كثيرة، عسى أن يقلل ذلك من خسائر بلاده المادية والمعنوية، ويجنبه نصائح رئيس قال هو نفسه عنه إنه لص، وطلب إليه علنا وصراحة وضع حد لفساده الشخصي ولفساد إدارته، ويعتبره سفير أوباما في كابول رجلا لا يمكن الثقة به.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى