السجناء السوريون في إسرائيل أو موقع الجولان في الوعي السوري الحالي
ياسين الحاج صالح
إلى هايل ابو زيد
سجناء سوريون؟ في إسرائيل؟ يبدو هذه غريبا. متى اعتقلوا وكيف؟ هل حاولوا التسلل والقيام بعمليات ضد المحتل على غرار بعض المواطنين الذين يحاكمون الآن امام محكمة أمن الدولة العليا فائقة الشهرة؟ ومن أين؟ من الجولان؟ لا يكاد يخطر ببال أن السجناء السوريين يمكن أن يكونوا من الجولان، وان نظام الاحتلال سجنهم لأنهم قاوموه بهذه الصورة او تلك. حين أشار رينود ليندرز من “المجموعة الدولية لمقاربة الأزمات” إلى الموضوع، شعرت بالعار: ليست لدي اية فكرة عن عددهم وعن ظروفهم ولا أتواصل مع أي منهم. ورغم اني قرأت بضع مقالات لأيمن ابو جبل لم يخطر ببالي أن أحاول التواصل معه. وها هو هولندي يلفت نظري إلي قضية سجنائنا.
غياب قضية السجناء السوريين عن بال عامة السوريين جزء من هامشية وخفوت موقع الجولان كلها في وعينا وتفكيرنا. احتلتها إسرائيل فنسيناها كأننا تحررنا من عبء. بصرف النظر عن أية أسباب لهذا الوضع فإنه شاذ وغير عقلاني وجدير بنا ان نشعر بالخزي حياله. وعلى كل حال لا اسباب تجعل الخزي خزيا أقل. الجولان وسكان الجولان وقرى الجولان وتاريخ الجولان ليست حاضرة في نقاشنا السياسي (مفرط التسييس) ولا في ثقافتنا (المفتتة وغير الفاعلة) أو في مجتمعنا المدني (المحطم) أو في نشاط حقوق الإنسان (المؤدلج والبائس) في بلادنا. هيئات حقوق الإنسان لا تضمن بياناتها معلومات عن الأسرى السوريين في السجون الإسرائيلية: هل عددهم 11 أم 20؟ كيف يعيشون؟ في اية سجون؟ كم تبلغ أحكامهم؟… ولم تتحدث اي منها عن هايل ابو زيد (الذي أفرج عنه مؤخرا بعد قرابة 20 عاما في السجن ويعالج من سرطان الدم في مشفى بحيفا)، او تجري حوارا مع ايمن ابو جبل أو تراسل حسان شمس.
الجولان منفصل عن سوريا لا لوقوعه تحت الاحتلال فقط ولكن لهامشيته السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية بالنسبة للوطن الأم. ولذلك لا ترتد المشكلة التي يطرحها هذا الانفصال إلى ضرورة قيام الحكومة بالتزامات بدهية حيال أهالي القسم المحتل بل تتعداه إلى وجوب توطين الجولان في الوعي والثقافة والذاكرة السورية، ولا تختزل إلى التغلب على حواجز الاحتلال المادية بل تتجاوزه إلى تكثيف شبكات التواصل والتفاعل المعنوي والشراكة الوطنية بين السوريين الذين يفصلهم المحتل. لا مجال للمقارنة بين موقع الجنوب قبل ايار 2000 في وعي اللبنانيين وموقع الجولان في وعي السوريين اليوم. هذا يقول شيئا عن سوريا ولبنان اكثر مما يقول عن الجولان والجنوب.
أما أن تكون “الحكومات السورية المتعاقبة” قد “تنصلت من اي التزام أو استحقاق تجاه اهالي الجولان المحتل، سواء على صعيد البنيى التحتية او المراكز الخدمية”، أما انها “لم تساهم في بناء مدرسة أو مركز صحي أو ثقافي منذ وطئت أقدام المحتلين أرض الهضبة”، فأمور تندرج في علاقة غير سوية بين النظام السوري وبين مجتمع الجولان (والمجتمع السوري) ككل (الاقتباسات من حسان شمس: الجولان المحتل: تقصير رسمي، النهار 2/12/2004). فالنظام مهتم بالجولان كقضية لا كمجتمع حي، كتجريد نضالي لا كحياة يومية قاسية في ظل احتلال كثيف الحضور. ومصدر تلك الأولويات اللا إنسانية هو أسبقية مقتضيات السلطة والشرعية الداخلية عند النظام على أي شيء آخر. الجولان ذاته من تلك المقتضيات. ووقوعه تحت الاحتلال يحرر من أي التزام حياله ويغني عن متابعة أوضاع مواطنيه وقراه الخمسة وسكانها العشرين الفا. والمفارقة أنه يناسب هذا الشكل من الشرعية أن يكون الجولان محتلا لا محررا، وأن تكون اوضاع الجو لانيين أسوأ لا أقل سوءا، وأن تتفاقم معاناتهم عوضا عن أن تخف. فالأوضاع السيئة في الجولان تخلق قضايا جيدة في دمشق وتدر شرعية مضمونة على نظام حكمها. هذا وجه أساسي من وجوه اللاعقلانية السياسية التي تفتك بسوريا وبالسوريين جميعا: تكرم القضايا، فيما يذل الناس ويسحقون. من الطبيعي ألا يهتم العقل السياسي المتمحور حول “القضايا” ببناء شروط داخلية تقوي ارتباط الجولانيين ببلدهم وتبعث في نفوسهم الاعتزاز والفخر به. يقول حسان شمس في المقالة المشار إليها إنه لا شيء يشغل بال مواطني الجولان أكثر من وطنهم “ابتداء من اعتقال عدد من أعضاء مجلس الشعب وآخرين من أصحاب المنتديات الفكرية والمدافعين عن حرية الرأي، مرورا بحادث المزة والعقوبات الأميركية… وصولا إلى القرار 1559”. والحال تلقي هذه الإشارة ضوءا ساطعا على سبب ضعف اهتمامنا بسجنائنا في إسرائيل: فقد ثلم حساسيتنا حيال عدوان المحتل ووحشيته تطبيع السجن والقسوة في بلادنا. ورغم أن السجون الإسرائيلية وأجهزة الأمن الإسرائيلية تسجل معدلات قياسية من القسوة والحقد والوضاعة، وفوقها جميعا العنصرية، فإن تلوثنا الأخلاقي يخذل قدرتنا على النقد ويفل حدة شعورنا ببشاعة الاحتلال.
يشير شمس في مقالته المشار إليها إلى قضايا الفساد وسد زيزون والمشكلة الكردية وقانون الطوارئ، ويسجل تناقضا رصده أحد مواطني الجولان بين اعتقال “اثنين من أعضاء برلماننا” لمجرد دعوتهما إلى “إصلاح احوال العباد” وبين احتفال الفضائية السورية بقضية عزمي بشارة الذي استطاع “انتزاع حقه عبر قضاء الدولة المحتلة، فيما فشل آخرون من تحصيل حقوقهم من سلطتهم الوطنية!”؛ يشير إلى كل ذلك ليشخص “تردي مستوى العمل الوطني ووتيرته على ساحة الجولان في السنين العشرة الأخيرة“.
هذه كلها أعراض لسياسة نظام منشغل بسلطته وصورته وشرعيته أولا. ومن وجهة نظر هذه السياسة، الجولان القضية أو الجولان الأرض اهم من الجولان المجتمع والتعليم ومستوى المعيشة والتفاعل الإنساني وعشرات السجناء. الجولان القضية يمنح سلطة مطلقة فيما لا يمنح الجولان الحي غير سلطة نسبية وخاضعة للمساءلة. ولعله لذلك بالذات سوريا ذاتها محض قضية، ومعاناة السوريين، مهما بلغت، تبقى نسبية في مقياس “القضية” التي وحدها مطلقة.
ولعل أحدا لم يعبر عن تلك السياسة أكثر ممن وصف بأنه “مسؤول رسمي سوري” اعتبر مشكلة الأسرى مشكلة “تقنية” قبل ان يضيف “نريد حل القضية الحقيقية الأصلية، الانسحاب من الجولان” ( روبرت مالي ورينود ليندرز، عروض سوريا تحتاج إلى تتمة، السفير27/12/2004). تلخص في هذه العبارة كل فلسفة الحكم في سوريا: “القضايا الحقيقية الأصلية”، أو “المصيرية” في لغة اخرى، او “الكبرى”، هي وحدها التي “نريد حلها”. أما حياة هايل ابو زيد مثلا، وكذلك قضايا الحريات والقانون والتعليم والعمل فهي “مشكلات تقنية” تقبل التاجيل. وواضح أن حرية الجولان تنتمي إلى عالم مختلف تماما عن حرية الجولانيين (دع عنك السوريين الآخرين): عالم “القضايا الحقيقية والأصيلة” مقابل عالم “المشكلات التقنية“.
والمشكلة أن هذا التناول غير عقلاني حتى من وجهة نظر براغماتية وتفاوضية، بل ودعائية. فمن مصلحة سورية أن تبقى قضية الأسرى السوريين ومستوى حياة السوريين في الجولان والخدمات في الجولان حية وقيد التداول كي تكون مصدر ضغط على إسرائيل. ومن مصلحة سوريا ايضا بروز مجتمع جولاني حي ومتفاعل، موحد وقادر على التعبير عن نفسه بعمق وقوة. والمصلحة السورية تقتضي توسيع دائرة التفاعلات بين السوريين على ضفتي الحدود. وهذا ما يجدر بالقادرين من المواطنين السوريين، مثقفين وناشطين ..، ان يبدو مزيدا من الاهتمام به. فالجولان قضية اهم من أن تترك لأجهزة سلطة منشغلة بصورتها ونفوذها قبل اي شيء آخر.
وإنه لمما يحز في النفس المقارنة بين اهتمام الإسرائيليين بمصير رون آراد أو حتى بجثة إيلي كوهين الذي اعدم في دمشق قبل قرابة 40 عاما، وبين اهتمامنا، سلطة ومعارضين ومثقفين، بالجولان ومواطنينا الأسرى من أهلها. من الطبيعي أن ينعكس هذا مرارة واسى في قلوب الجولانيين، والأسرى بالخصوص.
يقول هايل ابو زيد إن السجناء اللبنانيين والفلسطينيين كانوا يحسدون السجناء السوريين على أن وراءهم دولة وجيشا، ما يفترض ان يعني أن مقامهم في سجون المحتل لن يطول. ما حصل فعلا لم يقتصر على تحرر سجناء لبنانيين وفلسطينيين وعربا آخرين في الصفقة التي فرضها حزب الله على المحتل وبقاء السوريين رهائن محبسي سجون الاحتلال الإسرائيلي والنسيان من دولتهم، بل تعداه إلى إن السيد حسن نصر الله سوغ استثناء الأسرى السوريين بكونهم حائزون على الجنسية الإسرائيلية. المعلومة هذه ليس خاطئة فحسب، بل إن المفصل الأساسي لمقاومة الجولانيين للاحتلال وسبب وجود الأسرى السوريين في السجن هو رفضهم الجنسية الإسرائيلية حين ضمت حكومة بيغن الجولان عام 1981.
يرى هايل أيضا (36 عاما، منها 20 في السجن) أن “بقاءنا في الأسر الإسرائيلي عشرين عاما هو مدعاة للخجل لكل المسؤولين في سوريا” (حوار معه أجراه موقع “اخبار الشرق” الإلكتروني، 30/1/2005). ويتساءل “إن كانت عظام جاسوس إسرائيلي أثمن من زهرة شباب، أو حرية، أو حياة، عشرات الأسرى الجولانيين الذين يقبعون في المعتقلات الإسرائيلية؟”. ويعلق: “اعتقد ان حياة المواطن السوري لا يجب ان تكون بهذا الرخص”. ويقترح مبادلة عظام كوهين بأسرى الجولان وبأعداد من الأسرى العرب الاخرين “وخاصة الأسرى ذوي الملفات الصعبة، وأخص بالذكر أولئك الأسرى من عرب 1948 والقدس، الذين ليس هناك من يطالب بهم وهم يقضون أحكاما مؤبدة“.
تعطي هذه الاقتباسات فكرة حية عن المقاربة الإنسانية والتحررية لقضية الجولان الأسير وأهله. وهي مقاربة تعارض بصورة جذرية مع عفونة ولا عقلانية ولا إنسانية المقاربة السلطوية المتمركزة حول الشرعية، التي تتحدث عن “القضايا الأصلية والحقيقية“.
ما يضفي زيدا من التعقيد على المسألة أن إهمال السلطات السورية لمواطنيها الأسرى يهين المكافحين لتحرير الجولان ويقوي موقع “الناس الذين نحاربهم في مجتمعنا، (..) الذين انحرفوا عن الخط الوطني والالتزام بالانتماء لسورية”، حسب هايل ابو زيد في حديثه لـ”أخبار الشرق” (يسجل لهذا الموقع الوثيق الصلة بالإسلاميين السوريين أنه ثابر على الاهتمام بقضية الجولان دوما وكان سباقا إلى تغطية اخبار الجولانيين والاهتمام بأسراهم).
عانى الجولانيون من انقسام وجداني مستمر بين الدافع نحو مقاومة المحتل وبين ما تبثه أوضاع بلدهم فيهم من إحباط وخيبة، وكانت مقاومتهم للمحتل مغالبة لمشاعر الإحباط تلك وجهادا ضدها. ولا شك في انه لو كانت الأحوال السورية أكثر استواء واقوى دعما لكانت قاعدة المقاومة أوسع وأكثر فاعلية. وإذا كانت أصواتهم تعلو اليوم أكثر واكثر في نقد تعامل الحكم السوري مع الجولان، ما تعبر عنه مقالة حسان شمس وحوار هايل أبو زيد، فلأن “مرارتهم فاضت” ولم يعد الصمت يطاق.
وما يزيد المأساوي مأساوية أن بعض السر في هامشية الجولان في وعينا يكمن في كون الشان الجولاني شانا سياديا أو “قضية حقيقية اصلية”. في اللغة الرسمية السورية لا يعني هذا الكلام ان الجولان شأن يهم السوريين جميعا، وإنما هو شأن مقصور على حفنة صغيرة في قمة هرم السلطة. الشأن السيادي قضية “أمن قومي” ملفعة بالخوف والأسرار وليس قضية مصيرية تمس حياة سكان البلاد وأجيالهم. وهو وسيلة لعزل السوريين عن قضاياهم العامة لا لحفز اهتمامهم بها.
يعتقد رينود ليندرز أن مسألة السجناء السوريين في السجون الإسرائيلية مسألة سياسية من النوع الممتاز، بند يحرص المفاوض الشاطر على حشده في اجندته. إنها ليست كذلك للأسف. ليست مسالة سياسية لأنه ليس ثمة سياسة، ليس للسياسة منزلة مستقلة عن “القضايا الحقيقية والأصلية” التى تخدم في عزل السوريين عن عالم السياسة.
إن نسيان السجناء السوريين في بلدهم اخطر واغنى بالدلالة من وقائع سجنهم المريعة ذاتها. دلالتها اننا مجتمع ذاهل عن نفسه، أسير هو ذاته للضياع والتشوش والغربة والخو، مجتمع “أكل قتلا” حتى شبع باسم “القضايا الحقيقية الأصلية”، ولم يعد يشعر بشيء. وإن استعادة سوريا لوعيها وتحرير ذاكرتها هما أول استرجاع الجولان الضائع.