صبحي حديدي

الكويت: لا دستور إلا في قبضة آل الصباح

null
صبحي حديدي
اختتم أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، سنة 2009 بخطاب يمزج الحزن بالتشاؤم والوعيد، وأنذر بأنّ الديمقراطية في بلاده يمكن أن تتعرض لانتكاسة، تهدد الوحدة الوطنية، وتشعل الحساسيات الطائفية، و’تفتح باب الفوضى والانفلات، وتشيع أجواء التوتر والتناحر واستفزاز المشاعر والانشغال بالمماحكات والمزايدات والاستعراضات المشبوهة’. وكان الأمير يشير بوضوح إلى ‘حالة الخلل السياسي والعلاقة غير الصحيحة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية’، التي ‘أصبحت حملاً ثقيلاً يقوض المكتسبات والإنجازات ويمس الثوابت الوطنية’.
نتائج الانتخابات التشريعية، التي جرت أواسط أيار (مايو) الماضي، كانت تفيد بأنّ البرلمان الجديد سوف يختلف عن سواه من حيث إيجاد حلّ لذلك الخلل بالذات، أي صراع بعض البرلمانيين مع الحكومة وأسرة آل الصباح الحاكمة، والذي أدّى إلى حلّ البرلمان ثلاث مرّات منذ شباط (فبراير) 2006، وتشكيل 6 حكومات خلال أربع سنوات. فالمرأة الكويتية سجّلت انتصاراً تاريخياَ مشهوداً، ليس لأنها فازت بأربع مقاعد للمرّة الأولى منذ قيام البرلمان سنة 1962 فقط، بل كذلك لأنّ الدكتورة معصومة المبارك حصلت على المركز الأول في دائرتها، واحتلت زميلتها الدكتورة أسيل العوضي المركز الثاني في دائرة أخرى، كما انتُخبت الدكتورة رلى الدشتي، وهي شيعية، في دائرة ذات أغلبية سنية ساحقة. من جانب آخر، هبطت مقاعد الإسلاميين السنّة، وهم رأس الحربة في مقارعة الحكومة، من 21 مقعاً إلى 11؛ وتقدّم النوّاب الشيعة من 5 إلى 9 مقاعد، وهم في العادة ليسوا حلفاء مع زملائهم السنّة؛ كما تعزز موقع الليبراليين بمقعد إضافي، فصارت كتلتهم تعدّ 8 نوّاب، فضلاً عن أنّ البرلمانيات النساء يُحتسبن في هذا الصفّ أيضاً.
لكنّ الوقائع التي أعقبت تلك الإنتخابات أخذت تؤكد استمرار المأزق، الذي بلغ تطوراً غير مسبوق حين طلب 10 نوّاب إسلاميين استجواب رئيس الوزراء الشيخ ناصر محمد الصباح شخصياً، على خلفية تفريطه بأموال الدولة، بعد أن تمكنوا من الحصول على صورة ضوئية من شيك بقيمة 200 ألف دينار (480 ألف يورو)، وهبه إلى أحد النوّاب السابقين أثناء ولايته النيابية. كذلك تقدّم هؤلاء النوّاب باقتراح عدم التعاون مع الحكومة، الأمر الذي كان يعني واحداً من نتيجتين: إمّا استقالة الوزارة، أو قيام أمير البلاد بحلّ البرلمان.
صحيح أنّ الحكومة تمكنت من حشد عدد كافٍ لإسقاط الاقتراح، الذي نوقش بالفعل، وبرهن رئيس الوزراء أنّ الشيك صُرف من ماله الخاصّ، إلا أنّ الاقتراب من شخصه (وهو ابن أخ الأمير)، ثمّ استجواب أربعة وزراء دفعة واحدة، بينهم وزيرا الدفاع والداخلية، وكلاهما من آل الصباح، كان سابقة سياسية خطيرة ودليلاً جديداً على تعمّق الأزمة. والبرهان على هذا أنّ رئيس الوزراء رفع دعوى قضائية مضادة، في شأن ما صار يُعرف باسم ‘قضية الشيكات’، وصوّت مجلس الأمة على رفع الحصانة عن النائب فيصل المسلم، صاحب طلب استجواب الشيخ ناصر محمد الصباح، وعن زميله النائب ضيف الله بورمية.
هذا مجلس ‘كسر الأضلاع الثلاثة المهمة للنظام الديمقراطي وخلق نظاما مشوّهاً’، يكتب حسن محمد الأنصاري في جريدة ‘الدار’ الكويتية، وهو يصف طرازاً من البرلمانيين يتعمّد ‘التطرف بالعمل البرلماني’، و’لا همّ له إلا الارهاب والتخويف للوزراء من خلال طرحه الطائفي تارة بالاستجواب وأخرى بتوجيه أسئلة كلما أصبحت أجواء الطرح الطائفي في المنطقة ساخنة’. ولا يتردد الأنصاري في القول إنّ هذا النائب ‘لا يدع مجالا للشك بتجاوبه مع أطراف خارجية لتمرير أجندة خاصة لا علاقة لها بالمصلحة العامة ولا تلائم طبيعة الشأن المحلي’. في الآن ذاته يتهاون النائب عن مئات الملايين من هدر المال في مشاريع مثل ‘محطة مشرف’ و’المصفاة الرابعة’ و’ستاد جابر’ و’الخطوط الكويتية’…
وهكذا، يمكن للبرلمان الكويتي أن يجتمع لأمور خطيرة، مثل استجواب رئيس الوزراء، لأنه قدّم إلى أحد النواب هدية مالية ضخمة؛ أو لأمور بسيطة جداً، مثل استجواب وزيرة التربية حول جعل حصص الموسيقى إلزامية في المدارس، خلافاً لتعاليم الشريعة الإسلامية كما يفسّرها بعض النوّاب الإسلاميين المتشددين. لكنّ البرلمان فشل في عقد جلسة، ثمّ فشل مرّة ثانية، في مناقشة قضية كبرى خطيرة، تمسّ حياة مئات الآلاف من المواطنين الذين تُطلق عليهم تسمية الـ ‘بدون’، ولا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطن الكويتي.
ومن المعروف أنّ الحكومة الكويتية كانت قد شنّت عام 2000 حملة على الـ’بدون’، وحرمتهم من سلسلة حقوق أساسية، لإجبارهم على كشف جنسياتهم الحقيقية باعتبار أن معظمهم ـ حسب الرأي الرسمي ـ أبناء أو أحفاد مواطنين عرب قدموا إلى الكويت من دول مجاورة عقب اكتشاف النفط في الثلاثينيات من القرن الماضي. في المقابل، يصرّ العديد من أبناء الـ’بدون’ على أنّ أصولهم كويتية مثل سواهم، لكنّ أجدادهم كانوا من سكان البادية الكويتية، وبالتالي لم يتقدموا بطلبات للحصول على الجنسية الكويتية سنة 1959، حين بدأ تطبيق قانون الجنسية.
وكان عدد الـ’بدون’ يتجاوز 400 ألف نسمة قبل الغزو العراقي للكويت صيف 1990، وانخفض بسبب إصرار الحكومة على ترحيل عشرات الآلاف منهم، ولم يشفع لهم أنّ غالبيتهم كانت تعمل في صفوف الجيش والشرطة، وهي التي قاومت الجيش العراقي حين فرّ آل الصباح إلى السعودية. والنائب المخضرم مسلم البراك على يقين من أنّ قضية البدون لم تكن ضمن أولويات الحكومات الكويتية، على الرغم من أن وقائع الغزو العراقي للكويت ‘أثبتت أنه لا يوجد واحد من البدون خائن في الكويت’، وأن ‘الكثير منهم قدّم دمه وروحه فداء للكويت’، وبينهم ‘مَنْ ترك أولاده والتحق بالقوات المسلحة الكويتية في السعودية’.
والحال أنّ جوهر الأزمة لا يبدأ من خصام على غرار استجواب رئيس الوزراء، أو استمرار وجود ذلك الطراز من النوّاب دورة بعد أخرى، أو تقاعس المجلس عن حلّ مشكلة الـ’بدون’، وإنما يكمن في مفاعيل وعقابيل حال الإزدواج التالية: أنّ الكويت تزعم اعتماد نظام ملكي دستوري، ديمقراطي في بعض الاعتبارات؛ لكنّ سلطات البلاد الفعلية تظلّ في قبضة آل الصباح، الذين يعتبرون إخضاع أحد الكبار بينهم إلى استجواب في البرلمان هو انتقاص من مكانتهم السامية. ورغم قدرة الحكومة على تأمين أغلبية مريحة تكفي لإبطال أيّ مشروع قرار مناهض، فإنّ أمير البلاد يفضّل حلّ البرلمان على استجواب الحكومة أو قبول استقالتها، خاصة بعد قرار الأمير السابق، جابر الأحمد الصباح، بالفصل بين صفة ولي العهد ووظيفة رئيس الوزراء، وبالتالي لم تعد مهاجمة الأخير بمثابة مسّ مباشر بسلالة آل الصباح وإنما بالوظيفة البيروقراطية ذاتها.
وهذا يعطي مصداقية للرأي القائل بإنّ الخلافات داخل العائلة الحاكمة، حول تقاسم النفوذ عموماً واستغلال موقع رئيس الحكومة خصوصاً، ليست بعيدة عن تغذية الصراعات داخل البرلمان وتحريك بعض النوّاب من خلف الكواليس. ففي ‘قضية الشيكات’ إياها، اضطُرّ الشيخ ناصر صباح الأحمد الصباح، وزير الديوان الأميري، إلى نفي أية صلة له بتسريب صورة الشيك، وقال في تصريح رسمي إنه ‘يؤكد اعتزازه وتمسكه بالثقة التي أولاها سمو الأمير لسمو الأخ الشيخ ناصر المحمد رئيس مجلس الوزراء وبالروابط الأسرية والأخوية القوية التي تجمعهما’. وكانت بعض المنتديات الكويتية على شبكة الإنترنيت قد أثارت هذا الاحتمال، بالنظر إلى أنّ الخلاف بين ‘الناصرَيْن’ لم يعد خلف الكواليس، وبلغ مستوى التصارع المباشر، وليست ‘قضية الشيكات’ إلا جولة في ‘معركة كسر العظم’، حسب تعبير أحد المعلّقين في ‘الشبكة الوطنية الكويتية’.
ولعلّه من غير الصحيح، أيضاً، الجزم بأنّ مآزق البرلمان الكويتي ناجمة في معظمها عن رغبة الإسلاميين في مضايقة الحكومة وانتزاع ما يمكن انتزاعه من قرارات تخدم قراءتهم المتشددة. ومن الثابت أنّ معظم التيارات غير المقرّبة من آل الصباح ليست سعيدة باحتكار أمير البلاد وبطانته للقسط الأعظم من آليات اتخاذ القرارات الكبرى، خاصة في طرائق استخدام عوائد النفط. وكان إلغاء عقد بقيمة 17,4 مليار دولار أمريكي لإنشاء مشروع مشترك بين الحكومة الكويتية وشركة ‘داو كيميكال’ هو المثال الأبرز على هذا الجانب من صراع البرلمان السياسي مع الحكومة، حيث اعتبر النوّاب أنّ المشروع ليس في صالح البلاد.
ثمة، أخيراً، جانب لا يقلّ أهمية يقف خلف استمرار المأزق السياسي بين الحكومة والبرلمان، وهو أنّ القوانين الكويتية تحظر تشكيل الأحزاب السياسية، بحجة أنها يمكن أن تزيد في انقسام المجتمع إذا قامت على أسس مذهبية بين سنّة وشيعة، أو بين بدو وأبناء مدن. ولهذا فإنّ بديل الأحزاب هو التجمعات والروابط والمنتديات، وهذه أيضاً يُحظّر عليها تنسيب الأفراد بصفة أعضاء مشاركين يمارسون واجبات تنظيمية أو سياسية أو عقائدية موحدة.
ويُشار عادة، في التقديرات الغربية بخاصة، إلى أنّ نظام الكويت السياسي هو أحد أنجح نماذج التطبيقات الديمقرطية في المنطقة، بالنظر إلى توفّر برلمان منتخَب، أياً كانت الاعتراضات على طبيعة الولاءات الطائفية أو المذهبية أو القبائلية خلف صندوق الإقتراع؛ وصحافة حرّة نسبياً، ومثلها حقوق التعبير، مع قيود وتحديدات تخصّ المسّ بالأسرة الحاكمة؛ ودستور مكتوب، يُعتبر متقدماً بالقياس إلى دساتير أخرى شقيقة. بيد أنّ الحياة السياسية ذاتها، ضمن منظورات عمل الأحزاب والنقابات وأنساق الحملات الإنتخابية وسواها، تُعدّ فقيرة من حيث الكيف والكمّ، كما تظلّ خاضعة لقبضة آل الصباح في كثير من الاعتبارات، على نحو صريح أو مبطن.
والأسرة الحاكمة امتلكت على الدوام هوامش مناورة واسعة تماماً داخل ما يتبقى من لعبة سياسية تحت قبّة مجلس الأمّة، وكانت قادرة على ضبط السقوف العليا للحقوق التي يكفلها الدستور للبرلمان، وإقامة توازن دقيق بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. كذلك حدث، مراراً في الواقع، أنّ آل الصباح ذهبوا بعيداً في الممارسات المنافية للروح الديمقراطية، ولكن دون أن يخرقوا موادّ الدستور مباشرة، أو بالأحرى دون أن يزوّدوا خصوم الحكومة بأيّ ذرائع قانونية تبيح المساءلة الصريحة، والإدانة الواضحة، في ناظر الشارع الكويتي. وبالطبع، لم تكن الحكومة، ومن ورائها الأسرة الحاكمة متضامنة متحدة، عاجزة في أيّ يوم عن تأمين درجات الولاء اللازمة ضمن صفوف النوّاب أنفسهم، لأسباب شتى.
بيد أنّ تطوّرات الشدّ والجذب الأخيرة، وغير المسبوقة، بين مجلس الامّة وآل الصباح، تشير إلى تآكل تلك الأوالية، وانكفاء القدرة على تسخير هوامش المناورة وتوظيف التوازن القلق بين السلطات، من جانب أوّل؛ كما تشير، من جانب ثان، إلى أنّ هذا النموذج في القيادة الملكية ـ الدستورية سائر إلى مزيد من التأزّم، قبل الجمود أو الإنهيار أو الإنفجار. ومن الطبيعي، في ظلّ حال كهذه، أن ترتفع بعض الأصوات المقرّبة من آل الصباح، وأن تتهم الديمقراطية بتعطيل التنمية والإصلاحات وتطوّر المجتمع، مطالبة بتعطيل البرلمان نهائياً، والإقتداء بالشقيقات الخليجيات… حيث لا انتخابات ولا وجع دماغ!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى