السوريون اليوم بين السياسة الخارجية والهم المعيشي
حسان عمر القالش *
(إلى ورد وجيله)
لا يمكن إنكار حقيقة أن السوريين قد دخلوا عامهم الجديد هذا مرتاحين ومطمئنين، وان بدرجات متفاوتة. فقد تكللت سنة 2009 بانتصار سياسي توّجته الزيارة غير التقليدية وغير العادية التي قام بها رئيس حكومة لبنان سعد الحريري الى سورية، ما أعطى أملا بقرب زوال حالات الجفاء والاحتقان بين اقتصادي البلدين، وأنواع التقيّة السياسية بين مجتمعات هذين البلدين. الا أن كثيراً من السوريين لم يعودوا يربطون تقدمهم وازدهارهم الفردي بالنجاحات على مستوى السياسة الخارجية.
الأمر الذي بدأ يتطور ليشكل آلية دفاعية نفسية، تسهم في الحفاظ على مستوى معقول ومطلوب من وعي وادراك واقع الحال، والابقاء على قدر كبير من الطاقة للتركيز على القضايا الداخلية الملحّة.
فهذه القضايا، والتي لا يمكن انكار ملامساتها المصيرية لأحوال الفرد والمجتمع السورييّن، كان العام المنصرم مسرحها: فمن عملية المسح الاجتماعي بحثاً عن الفقر والفقراء في سورية، وبروز أهمية وجود الرقم الاحصائي الحقيقي المتعلق بكل مناحي الحياة، والأخذ والرد في موضوع الدعم الحكومي للمواد الأساسية والزراعة ومادة المازوت الحيوية، وحقيقة أو انكار افلاس جزء كبير من مؤسسات القطاع العام، والتيقّن من جديّة فتح ملفات الفساد والمفسدين، الى الجدال الذي أحدثته مشاريع ومسودات قوانين تمس تشكيلات المجتمعات السورية واستقرارها… كل هذه، كانت عناوين أساسية في ما يتعلق بالسياسة السورية الداخلية، أو ما يسمى بـ «الهم المعيشي».
فسوريّو العقد الجديد واقعون، كعادة سوريّي العصر الحديث، في إشكالهم التاريخي، وهو تغليب القوميّ والخارجي على الوطني المحلي والداخليّ. وهذه الحال تعكسها بوضوح اليوميات الاعلامية، المرئية والمقروءة، الرسمية وشبه الرسمية. واذ طغت أخبار وأحداث لبنان وغزّة وفصائل المقاومة والمعارضة الكائنة بين ثناياها، على مقدمات نشرات الأخبار والصفحات الأولى للجرائد، كانت الأحداث والقضايا الداخلية إما أن تحشر في دواخل المرئي والمقروء، أو ألاّ يكون لها أي وجود اعلامي وخبريّ على الاطلاق. ليبدو الأمر كما لو أنه عبارة عن تصنيف لمهام هذا الاعلام، وتصنيف – مفترض ومفروض – لاهتمامات وأولويات المواطن وحاجاته المعرفية.
وهذه الحال قد تكون أحد المؤشرات الكبرى على عمق وقوع السوريين في ما يشبه الفصام السياسي أو الازدواجية السياسية. فمجموع القضايا الاقليمية كأحداث لبنان وتطورات الوضع السياسي فيه، وأوضاع قطاع غزة التي اختصرت كل رمزية واتساع القضية الفلسطينية، أو ما كان يعرف بالصراع العربي الاسرائيلي، اضافة الى الشأن العراقي، تشكل بلا شك أهمية كبرى ضمن الوعي والوجدان الوطني السوري، الفردي والمجتمعيّ، ما يجعلها أحد المحركات الرئيسية لعوامل القلق والمتابعة والاهتمام. وهذه لا تكتمل ولا تصل الى ذروتها، الا بتصدّر الوضع الداخلي قمة الوعي والوجدان نفسيهما. ففي الوقت الذي ينشغل السوريون فيه بتلك القضايا الاقليمية التي تلامس كيانهم، تلحّ عليهم قضاياهم الداخلية، المعيشية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الحاحاً صامتاً على ما يبدو، حيث يتعذر اخراجها الى العلن العام، بالشكل والمستوى المطلوب وطنياً.
فالعام الماضي لم يمر مرور الكرام، وان بدا هكذا في الصورة الاعلامية الرسمية. وكان مما سجله أن مجلس الشعب (البرلمان) أقرّ، هذه المرّة، قانوناً يقضي بدفع مبلغ مالي، كتعويض نقدي عن دعم مادة المازوت. ومع تواضع هذا المبلغ، كان أن تأخرت الحكومة والبرلمان معاً في اقرار القانون، والذي أتى بعد أن دخل الشتاء، وهو الحافل بشروط وقيود مجحفة وغير منطقية ما أثار اعتراض الناس.
وهذا الأمر كان واضحاً في مقابلة أجرتها احدى الاذاعات الخاصة المحلية مع نائب في مجلس الشعب محسوب على المستقلين («شام أف أم» 18/11/2009). اذ اعترف بأن «الناس موجوعة»، وأن «هذا القانون قانون سيِّئ». لكنه قال بعد اتصالات المستمعين المستائين، وتركيز المذيع على دور مجلس الشعب أن على الانسان أن «يدبّر أموره»!.
وكان العام المنصرم قد أكّد على الانفتاح الاقتصادي للبلاد، وان بسياسات غير شعبية ولا تراعي شخصيتها الاقتصادية. اذ تم تثبيت الوجهة الاقتصادية باعتماد النهج النيو ليبرالي المتمثل في اقتصاد السوق المفتوح، والذي يسميه «الفريق الاقتصادي» الحكومي تخفيفاً بـ «اقتصاد السوق الاجتماعي». فنشب الكثير من الجدل كذاك الذي دار بين حاكم المصرف المركزي وبين بعض الأكاديميين والاقتصاديين حول تأثّر الاقتصاد المحلي بالأزمة المالية العالمية.
وكذلك كانت اقالة مدير هيئة تخطيط الدولة الدكتور تيسير الردّاوي، الذي كان قد أصدر عن الهيئة الحكومية تقريراً انتقد فيه الخطة الخمسية العاشرة للحكومة، ومن ثم جاءت محاضرته الأخيرة التي سجل خلالها ملاحظات صريحة ومباشرة على الأوضاع الاقتصادية التي تمر فيها البلاد، حيث رأى أن «عائدات النمو تمركزت في أيدي فئات قليلة من السكان كان لها ممارسات استهلاكية وبذخية وادخارية أعاقت عملية النمو ووجهت الطلب على سلع وخدمات خارجية ووجهت الادخار إلى الخارج أو إلى قطاعات ليست إنتاجية»، كما نقلت عنه نشرة «كلنا شركاء الاكترونية» المحظورة في سورية. فكانت هذه المحاضرة، أيضاً، مناسبة للكشف عن «حجم الخلاف بين الرجلين [الرداوي والدردري]… أو بشكل أصح بين رؤيته وسياسات الحكومة الاقتصادية»، حسب ما كتب زياد غصن في موقع «سيريا ستيبس».
والحال، أن النظر الى ما سبق، على أنه ملمح صغير من ملامح «الهم» المعيشي السوري، يؤدي الى زيادة الطلب الفردي والمجتمعي على البحث والتفكير في القضايا الداخلية، الأمر الذي لا يتحقق بنسبته الكبرى. ذاك أن عوامل الازدواجية السياسية التي تحدثنا عنها تضغط هنا. فالضغط الاعلامي الرسمي تجاه القضايا التي تحمل طابعاً سياسياً خارجياً، قومياً أو اقليمياً، بكل ما حوى هذا الضغط من عناصر الحماسة والاستفزاز الوجوديّين، وافتقار البيئة والمجتمع السورييّن الى وجود فاعلين سياسيين متخصصين بالشأن العام الداخلي، في ظل انعدام شعبية وفعالية أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، اضافة الى الموروث الثقافي والمدرسي الحافل بالرطانة العروبية والقومية، والتنشئة الأيديولوجية للأجيال الداعية الى التطلع الى القضايا الكبرى وعدم الاكتراث بفتات وهوامش الهموم الصغيرة…، كل هذا كان من أسباب تلك الحال.
خلاصة القول، أن التطلع الى بناء واثبات وجود سورية جديدة وحديثة، يحتاج إلى أكثر من الاجتهاد على مسار السياسة الخارجية. يحتاج الى تركيز حقيقي وفعّال على الفرد والمجتمع. فالبلدان ليست كيانات سياسة فقط، انما أيضاً أفراد ومجتمعات. وبالتالي، فلا وجود لمهم وأهمّ في هذا الترتيب.
* صحافي سوري
الحياة