صفحات سورية

صرخات المعتقلين في سوريا تملأ الفضاء.. لا أحد يسمع…

null
حسن عبد الله
تبدو حكاية الناشط الحقوقي السوري هيثم المالح مأساوية. فالرجل الذي يعرف كل شيء عن طرق التعذيب التي تمارس في السجون السورية، ويعمل على فضحها، سواء من خلال عمله كمحام عن المعتقلين السياسيين، أو من خلال خبرته العملية حيث اعتقل من عام 1980 حتى عام 1986، أو بأنشطته في مجال حقوق الإنسان، يقبع الآن في سجن عدرا الرهيب باتهامات مثل نشر أنباء كاذبة وتحقير الرئيس وذم القضاء، وربما يتعرض للتعذيب أيضا. كان المالح، البالغ من العمر 79 عاما، والذي اعتقلته السلطات السورية في 14 أكتوبر الماضي عقب مداخلة هاتفية مع قناة المعارضة السورية الفضائية “بردى”، يتصور أن عمله الدؤوب في مجال حقوق الإنسان ودفاعه عن حقوق المستضعفين وتواصله مع المنظمات الحقوقية الدولية، سيشكل سياجا يحميه من قمع الأجهزة الأمنية في بلده. لكن آمال الرجل خابت عندما اختطفته يد الاعتقالات التي تطول قوى المعارضة في سوريا أيا كان توجهها أو فكرها.
ورغم البيانات القوية التي أصدرتها جهات دولية معتبرة مثل منظمة هيومن رايتس ووتش، ومنظمة العفو الدولية، والخارجيتين الأمريكية والفرنسية، مطالبة بالإفراج عن المالح، فإن النظام في سوريا رفض حتى قبول الاستئناف القضائي وأصر على تقديمه إلى محاكمة عسكرية.
منذ نحو عام ونصف العام استقبل المالح نيوزويك في مكتبه المبني بالحجارة بإحدى ضواحي دمشق العتيقة. وبعد أن صنع بنفسه قهوة تركية منعشة، راح يشكو بمرارة من الوحدة المفروضة عليه جراء منعه من مغادرة سوريا لزيارة زوجته وأولاده الأربعة في أمريكا. وتحدث عن تهديدات تلقاها بشكل مباشر من وزير الداخلية، وبأنه قد يتعرض للقتل ببساطة في حادث سيارة، وأنهم ـ أي قوى الأمن ـ ضغطوا على زبائنه كى يسحبوا قضاياهم من مكتب المحاماة الذي يملكه، وهو ما أفقده خلال عامين أكثر من 50 بالمائة من دخله. ابتسم المالح وهو يرتشف قهوته وقال: “عندما تطلبني الأجهزة الأمنية للاستجواب، أقول لها بأنني شخصية دولية والعالم لن يسكت عن أي شيء يحدث لي. ويبدو أن ذلك يردعهم عن اعتقالي أو إيذائي”.
وراح الناشط الحقوقي، في حضور عدد من قيادات جمعية حقوق الإنسان السورية التي تتخذ من مكتب المالح مقرا لها، نظرا لعدم وجود موارد لها ورفض السلطات الترخيص لها، يتحدث عن أن الأمن هو الذى يحكم سوريا وليس بشار الأسد أو حزب البعث، وأن ثمة شخصيات سرية تدير البلد من خلف الأبواب ولايعرفهم أحد، وأنه لن يتوقف عن فضحهم حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك.
ليس المالح وحده الذي يعاني محنة الاعتقال بسبب آرائه ومواقفه، فهناك نحو 3 آلاف معتقل سياسي، أخذوا بتهم منصوص عليها في قانون العقوبات السوري، مثل سب الرئيس وإضعاف الشعور القومي أو النيل من هيبة الدولة. فرجل الأعمال والبرلماني السابق رياض سيف ـ أحد قادة “ربيع دمشق” التي هي حركة إصلاحية تم وأدها واعتقال كل أعضائها، انطلقت عام 2001 مطالبة برفع حالة الطوارئ في سوريا وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإفساح المجال لحرية الرأى والتعددية السياسية ـ تم اعتقاله مرتين ووقف كل أنشطته في مجال الأعمال ثم التضييق عليه، إلى حد أنه لم يسمح له في سجنه بتلقي العلاج من الإصابة بسرطان البروستاتا الذي وصل إلى مرحلة متقدمة جدا.
والداعية السلفي عبد الرحمن كوكي الذي تحدث في برنامج على قناة “الجزيرة” الفضائية في أكتوبر الماضي، عن منع النقاب في مصر، تم اعتقاله بمجرد عودته إلى دمشق بتهمة النيل من هيبة الرئيس، رغم أن كوكي لم يتحدث عن الرئيس السوري بأي سوء.
على الرغم من أنه ساد شعور بالارتياح والتفاؤل في الأوساط السورية والدولية عقب تولي الرئيس الحالي بشار الأسد السلطة عام 2000 خلفا لوالده وإصداره قرارات بالعفو عن 600 من المعتقلين السياسيين، وإحالة مشروع مرسوم رئاسي لمجلس الشعب السوري بإعلان العفو العام عن كل الجرائم المرتكبة قبل 16 نوفمبر 2000، فإن أوضاع حقوق الإنسان قد استمرت في التدهور، ومازال الاعتقال والتعذيب يمارسان بشكل ممنهج وعشوائي في سوريا في ظل القوانين الاستثنائية التي لم يتم إلغاء حرف منها.
وبحسب المالح، فإن نحو 20 وسيلة تعذيب جسدية تمارس في السجون السورية الآن، منها ما يسمي بالكرسي الألماني والصعق بالكهرباء والضرب بالكابلات والتعذيب بالمياه والفسخ والمثقب الكهربائي والشبح والأفعال المنافية للآداب والطعام الكريه وغيرها.
وقد أصدر الرئيس السوري مرسوما تشريعيا عام 2008 يمنح عناصر الشرطة وشعبة الأمن السياسي والجمارك حصانة من الملاحقة القضائية، وذلك بحصر ملاحقة العناصر المتهمة بممارسة التعذيب بالقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة، رغم أنهم يتبعون إداريا لوزارة الداخلية.
وحسب ناشطين سوريين فإنه منذ إعلان حالة الطوارئ في سوريا عام 1963، فإن نائب الحاكم العرفي يستبيح القوانين، ويخرق الدستور ويصادر الممتلكات ويزج بالمعارضين في السجون ويسوقهم جماعات ليحاكموا أمام محاكم عسكرية لا يتوفر فيها الحد الأدنى من حق الدفاع عن النفس. وباسم هذه المحاكم تم إعدام العشرات بل المئات من الناس. وحتى من أفرج عنه ويملك الحق في إعادة اعتباره بنص القانون، فلا توافق المحاكم على تسلم طلبات لإعادة الاعتبار.
وقد ارتفعت وتيرة الاعتقالات في سوريا خلال العامين الماضيين بشكل يحتاج إلى تأمل. فعلى الرغم من انفتاح النظام السوري على الخارج من خلال تحسن علاقاته العربية والإقليمية والدولية، ونجاحه في الدخول في حوار مع أوروبا وأمريكا، فإن ذلك لم يستتبعه حوار أو انفتاح في الداخل. يقول الأمين العام للاتحاد الاشتراكي والناطق باسم التجمع الوطني الديموقراطي الذي يمثل القوة الرئيسية في المعارضة السورية، حسن عبدالعظيم لــ”نيوزويك”: “قالت السلطة إن الحصار ومحاولات عزل سوريا تجعل الأولوية للأمن، واستتبع ذلك إجراءات أمنية مشددة منها الاعتقالات والمحاكمات العسكرية ومنع سفر القيادات السياسية والناشطين الحقوقين. ولما انتهت عزلة سوريا أداروا ظهورهم لنا”.
ويؤكد عبدالعظيم أن المعارضة لا تريد إسقاط النظام ولا إزالة الحزب الحاكم، وإنما تسعى إلى إحداث تحول وطني ديموقراطي سلمي، بأن يكون حزب البعث حزبا في السلطة وليس حزب السلطة، وأن تكون هناك انتخابات ديموقراطية. ويضيف: “حقيقة، لم نجد أي بادرة تشير إلى الأمل في التغيير. فالسلطة تتعامل بقاعدة من ليس معي فهو عدوي. كما أن بنية النظام قائمة على المصالح والامتيازات، التي لا تعترف بالآخر ولا بالمعارضة الوطنية الديموقراطية، وتستخدم الأمن حجة لقمع معارضيها”.
تتحكم أجهزة أمنية عدة في مفاصل الحياة في سوريا، ويتفرع عن كل جهاز عدد من الأفرع تصل إلى 15 فرعا، وفق معلومات من مصادر سورية نافذة. وتتداخل أعمال هذه الأفرع مع بعضها بحيث أن كل فرع يستطيع أن يمارس صلاحيات أمنية متعددة، بل وله مكان التوقيف الخاص به. وجميع مراكز التوقيف الخاصة بالأفرع هي خارج صلاحيات القضاء، ولا تخضع لرقابة النيابة العامة، ولا سلطان عليها من أي جهة كانت. كذلك لا يوجد أي تنسيق بين الأجهزة الأمنية بحيث إذا اعتقل أحد الأجهزة شخصا فإنك مضطر للبحث عنه في كل فروع الأمن الـ15.
وبحسب اعترافات منشورة لعم الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، رفعت الأسد، الذي كان المسؤول الأول عن الأجهزة الأمنية والمخابرات ثم هرب إثر خلاف على السلطة مع شقيقه الراحل حافظ الأسد، وأكدتها تقارير لجمعية حقوق الإنسان السورية، فإن أجهزة الأمن قتلت عشوائيا ما بين 15 إلى 20 ألف معتقل سياسي في سجني تدمر والمزة، ودفنتهم في مقابر جماعية في الفترة ما بين عامي 1980 و1990. وهناك نحو 60 إلى 70 ألف شخص فقدوا في السجون وأثناء المعارك والمذابح التي تعرض لها المعارضون على يد السلطات، ولم تتم تسوية أوضاعهم، ومازالوا، وفق الأوراق الرسمية، أحياء حتى الآن.
أما المهجرون، وفق التقارير السابقة نفسها، فهناك أكثر من ربع مليون سوري تم نفيهم أو تهجيرهم قسريا في الفترة نفسها، وليسوا كلهم من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين التى دخلت في مواجهات دموية مع النظام في ثمانينات القرن الماضي، وجميعهم بلا أوراق ثبوتية أو جوازات سفر. ويعيش في الأردن منهم نحو 25 ألف شخص ولا تزال السلطات السورية ماضية في إنكار حقوق هؤلاء المهجرين في العودة الآمنة لوطنهم، وفي الاعتراف بشخصياتهم القانونية وحقوقهم المدنية ورفع الحجر عن ممتلكاتهم المحجوزة في البلاد.
وعلى الرغم من أن المجتمع السوري يتميز بتنوع أفراده دينيا ومذهبيا وقوميا، إلا أنه يتم إنكار هذه المكونات نظرا لهيمنة أيديولوجية حزب البعث على الدولة والمجتمع، وساهم هذا في تعزيز مناخ ثقافي أيديولوجي يقوم على التمييز العنصري.
فالأكراد مثلا الذين تقدر نسبتهم بحسب أكثر من مصدر في سوريا وخارجها بين 9 إلى11 بالمائة من تعداد السكان (البالغ عددهم نحو 23 مليون نسمة) يعانون غياب التمثيل السياسي، وفرض القيود الصارمة على حياتهم الاجتماعية والثقافية. ولا يزال ما يزيد عن 200 ألف كردي ينتمون إلى فئة المحرومين والمجردين من الجنسية السورية.
كان على النظام السوري أن يذعن للأصوات الوطنية المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، التي تصب في النهاية لمصلحة بقائه واستمراره، والسلام والوئام الاجتماعيين. لكنه ـ كما يبدو ـ مصرّ على الاستمرار في نهجه. البرلماني السابق رياض سيف المعتقل الآن في سجن عدرا المركزي بتهمة إضعاف الشعور القومي ونقل الأنباء الكاذبة والذي ترفض السلطات السورية الإفراج عنه رغم مرضه الشديد، قال لـ”نيوزويك” قبل اعتقاله عام 2008: “الواضح بعد تسع سنوات مضت، أن هناك اتجاهين يحكمان الوضع الداخلي السوري، الأول هو بنية النظام السياسي المغلقة والمضادة للإصلاح، والثاني أن السلطة لا تملك برنامجا للإصلاح، وطرحها الإصلاح بالأسلوب الحالي ليس إلا من باب الحفاظ على امتيازات قائمة يتعارض استمرارها مع أي إصلاح من أي نوع أو مستوى”.
إن الإصلاح، وفق رؤية هيثم المالح، يستلزم توفر إرادة حقيقية لدى السلطة، وطي ملف الاعتقال السياسي نهائيا، وكف أيدي الأجهزة الأمنية عن ممارسة الترهيب والاعتقال والتدخل في الحياة السياسية والمدنية، والإقرار بالتعددية السياسية والثقافية. فهل يستمع أهل الحكم في سوريا إلى نصيحة، المالح، القاضي السابق والحقوقي النزيه القابع في السجن الآن بتهم أقل ما يقال عنها إنها سخيفة ومجحفة؟!
نيوزويك العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى