سورية تتجه أصوليا: لمحة عن توجه المجتمع السوري نحو الأصولية والابتعاد عن الاعتدال
وائل السواح
ثارت في سورية مؤخّرا عاصفة أصولية هوجاء في وجه مفتي الجمهورية في سورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون، بسبب تصريحات نسبت إليه يأخذ فيها موقفا معتدلا من الأديان الأخرى، ومن عمليات القتل التي تتمّ باسم الإسلام.
تربطني بالمفتي صداقة أعتزّ بها، ولكنّ ذلك لا يدفعني للدفاع عنه. فهو أوّلا لا يحتاج إلى دفاعي، وهو ثانيا أقدر مني على الدفاع عن فكره إن كان يرى في نفسه حاجة إلى ذلك. غير أنّ المراقب لمجرى الأمور في سورية لا يستطيع أن يتجاهل هذه الحملة المنظّمة، ولا أن يتعامى عن ربطها بالسعي الدؤوب من قبل الإسلاميين لأسلمة هذا البلد الذي كان طوال حياته بلدا وسطيا منفتحا ومعتدلا.
بدأت القصة عندما اجتمع المفتي بوفد من الطلاب الأمريكيين من جامعة جورج مايسون، جاءوا إلى سورية بإشراف بروفيسور وحاخام يهودي أمريكي مناصر للسلام والتعايش في العالم، هو البروفيسور مارك غوبن.
تلك رابع زيارة يقوم بها الأستاذ غوبن إلى سورية. وفي كلّ مرّة يقوم الأصوليون السوريون بحملة شعواء ضدّ زيارته. ولكنّ ما أزعج هذا التيّار الراديكالي الآن، أكثر من أية مرّة سابقة، هو أنّ الحاخام لم يأت وحده، بل صحبة نحو عشرين طالبا جاؤوا إلى سورية للاطلاع على التجربة السورية في الاعتدال والعيش المشترك، التي بدأت على أية حال بالتراجع.
وقد “تبرّع” صحفيٌّ، لم يكن موجودا في الاجتماع، بنقل حديث منسوب إلى المفتي يقول فيه ما معناه “لو أنّ النبيّ محمّدا أمرني بالكفر بالمسيح أو بموسى لكفرت بمحمد، ولو أنه أمرني بالقتل بغير حقّ لقلت له أنت لست نبيّا”.
وقد سارعت جبهة الراديكاليين السوريين إلى شنّ حملة شرسة على المفتي، وصلت حدّ اتهامه بإهانة النبي والخروج على تعاليم الإسلام. وتبرّع خطباء الجمعة ومدرّسو الجوامع والدعاة بالمساهمة في هذه القضية في خطبهم ومواعظهم ودروسهم. وقرن بعض الوعاظ تصريحات المفتي “بتصريحات شيخ الأزهر وفتاواه”، في تعريض بالرجلين معا. ووصف المعارضون الراديكاليون تصريحات الشيخ حسون بأنها “مسيئة” للنبيّ، وأنها تدافع “عن اليهودية والمسيحية أمام وفد دينيّ وأكاديميّ أمريكيّ يرأسه حاخام أمريكي يزور سورية”. وتداول إسلاميون متعصّبون صورة المفتي في لباس مطران وقلنسوته، مفترضين أنّ في ذلك إهانة بالغة للرجل.
وسارع تنظيم الإخوان المسلمون إلى التدخّل في اللعبة، فوصف على لسان الناطق الرسمي باسم الجماعة التصريحات المنسوبة إلى المفتي بأنها “أقلّ ما يُقالُ عنها إنها إساءة للأدب مع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وطالبوا المفتي بالاعتذار على اعتبار “أنّ المسلمين في سورية والعالم يستحقّون اعتذاراً رسمياً يصدر عن سماحة المفتي، يقول فيه (عفواً لقد أخطأت في التعبير)”.
وكان الإخوان المسلمون شنّوا قبل فترة وجيزة حملة أخرى ضدّ المفتي بسبب لغة متسامحة استخدمها في ذكرى عاشوراء تجاه المسلمين الشيعة. واتّهمه باحث إسلاميّ سوريّ هو منير الغضبان بأنه “يتنكّر لثوابت مليار من المسلمين في الأرض. إرضاء لفريق الشيعة ويتخلّى عن ثوابت الأمّة خلال خمسة عشر قرنا من الزمان.”
نحن هنا أمام مثال آخر على أنّ الإسلاميين لا يقبلون المواقف الوسطية ولا المعتدلة، والأخطر أنهم لا يقبلون التفسير الآخر. وهم في تعصّبهم رفعوا النبيّ إلى مستوى الإله، متناسين أنّ النبيّ نفسه كرّر مرارا عديدا أنه بشريّ يمكن أن يخطئ ويصيب، وأنّ القرآن نفسه أمر محمدا بأن يعترف بأنّه بشر مثل الآخرين: “قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ.”
ومن جانب آخر، فإنّ أحدا من الذين هاجموا المفتي لم يكن في الاجتماع المذكور ولم يسمع منه ما قال. وهم في سلوكهم هذا لا يختلفون عن سلوك ملايين المسلمين الذين خرجوا إلى الشارع قبل خمس سنوات فقَتلوا وقُتلوا وحَرقوا وحُرقوا، احتجاجا على رسوم لم يروها ولكن قيل لهم إنها تسيء إلى النبي. وإن كان سلوك العامة مفهوما (وليس مبررا)، فإن سلوك الخاصة ليس مفهوما وبالتأكيد هو غير مبرّر.
لا يقبل الأصوليون التحديث في المضمون، لكنهم يزيدون أيضا رفضهم للتحديث حتى في لغة الحوار نفسها، حتى لو تمّت المحافظة على المضمون. فلو فرضنا أن المفتي قال ما قال (وأنا أتمنّى أن يكون قد فعل)، فإنّ ذلك لن يكون سوى عرض للفكرة نفسها بلغة مختلفة. وعبارة “لو أنّ النبيّ أمرني أن أكفر بالمسيح لكفرت بالنبيّ”، لا تعني سوى أنه من المستحيل للنبي أن يأمر بالكفر بالمسيح. ذلك أنّ لو بالعربية هي حرف امتناع لامتناع. يقول ابن هشام: “لو حرفٌ يقتضي امتناع ما يليه واستلزامه لتاليه.” ويقول النحويون إن لو تفيد أن الشرط ممتنع دائما. والمثال المتداول بين النحويين هو “لو جاء زيد لأكرمته،” ومضمونه أن زيدا لن يأتي. وكذلك الحال في عبارة “لو أن النبي محمدا أمرني بأن أكفر بالمسيح” فهي تعني أن محمدا لا يمكن أن يأمر بالكفر بالمسيح، وإلا لكانت عبارة محمد نفسه: “لو أن فاطمة بنت محمدا سرقت لقطعت يدها” تعني أنه من الممكن لفاطمة أن تسرق، وهذا ما لا يوافق عليه الأصوليون.
أعود فأقول إن مهمّتي ليست الدفاع عن المفتي، فهو أقدر على ذلك مني. ولكن مهمتي هي التنبيه إلى أن المقصود من هذه الحملة ليس المفتي بذاته، ولكن المقصود مفهوم الاعتدال نفسه. يريد الأصوليون أن يفهمونا بأنهم هم الآن سادة الموقف، يأمرون وينهون، وأن سورية التي عرفناها، سورية التي يتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود واليزيديون والصابئة، وكذلك التي يتعايش فيها المتدينون وغير المتدينين، قد انتهت، وأن سورية جديد قد ولدت، سورية يتحكم فيها أكثر فأكثر الإسلاميون الأصوليون والراديكاليون، الذين يدفعون البلاد شيئا فشيئا نحو التعصب والانغلاق والفكر الطالباني المنغلق.
يمكن إحصاء مئات الأمثلة على توجه المجتمع السوري أصولا، بمباركة من الحكومة أحيانا. النقاب الغريب عن سورية والإسلام الشامي (1) المعتدل ينتشر في سورية انتشار النار في الهشيم. الرقابة تشدد قبضتها يوما بعد يوم على نشر الكتب التي تناقش قضايا علمانية وعقلانية، ووزارة الثقافة المؤتمنة على الثقافة تلعب أكثر فأكثر دور الرقيب على هذه الكتب، بعد أن لعبت لعقود طويلة دورا تنويريا بامتياز، بإشراف عميد المنورين السوريين الفيلسوف السوري الراحل أنطون مقدسي، ومتابعة المفكر والباحث محمد كامل الخطيب.
وعندما قرر وزير التعليم رفع التعليم الإلزامي إلى الصف التاسع بدلا من السادس، اتحدت أصوات رجال الدين الأكثر أصولية في رسالة وجّهوها إلى القيادة السورية وطلبوا فيها استثناء الثانويات الشرعية من هذا القرار. وكان أن تراجعت الوزارة عن قرارها.
والكتاب الذين كانوا ينافحون عن العلمانية بدؤوا يتراجعون إمّا خوفا وإمّا رشوة من الإسلاميين وتمسحا بأعتاب “الجماهير المؤمنة.” وصاروا ينحتون عبارات جديدة مثل “العلمانية الإنسانية” و”العلمانية كسرديات متفاوتة الحجوم،” وغيرها، في محاولة للتبرؤ من مفهوم العلمانية الذي يعني أن تكون الدولة على مسافة واحدة من كل المعتقدات والأفراد الذين يتمتعون بحرية مطلقة في الاعتقاد، دون أي ضغط أو انتقاص في الحقوق.
إلى ذلك، المدن السورية تجفّ من الكحول. والبارات ومحلات بيع الخمور التي كانت تتواجد بالحدّ المقبول في المدن السورية كافة في السبعينات والستينات والخمسينات، بل وفي ظل الإمبراطورية العثمانية، انتهت تماما من المدينة، وانحصرت – أو تكاد – في الأحياء المسيحية من المدن، وهو ما يشكل خطرا حقيقيا على العيش السوري المشترك. فالكحول التي يحاول رجال الدين ربطها بالرذيلة تنحصر الآن في المناطق المسيحية من المدن الكبرى، مما يدفع الفكر البسيط إلى الربط بين المسألتين واستنتاج أن الأحياء المسيحية في سورية هي التي تبيع الخمور وبالتالي فإنها تنتج الرذيلة.
على أن أخطر ما في الأمر هو أن تلعب الحكومة دورا مساعدا في التوجه الأصولي في البلاد. وسأركز ههنا على دور وزارة الثقافة في سورية التي سحبت في العام الماضي كتابا من إصداراتها، لينضم كتاب “سورية في رحلات روسية خلال القرن التاسع عشر” إلى قوائم الكتب الممنوعة التي تزدادا طردا مع ازدياد التوجه الأصولي في البلاد والمنطقة، في سابقة خطيرة ستفتح الباب واسعا أمام حركة جارفة من مصادرة الكتب المطبوعة ومنع الكتب الجديدة من النشر في سورية أو من التوزيع فيها.
ولا يتردد السيد وزير الثقافة في سورية في تأكيد أن مهمة وزارته الآن هي الدفاع عن العروبة والإسلام. يقول السيد الوزير في حوار أجرته معه صحيفة “بلدنا” الدمشقية الخاصة: “بعد 11 سبتمبر اكتشفت الأمة الإسلامية كلها دفعة واحدة أنها متهمة دون أية أدلة، وظهرت معاداة الإسلام وصارت المشكلة عالمية. وسورية معنية تاريخياً بالدفاع عن المسيحية والإسلام معاً، لأن المسيحية انتشرت من دمشق، ودمشق هي التي شهدت ظهور أول دولة عربية إسلامية بعد الخلافة الراشدة (…) وهكذا باتت سورية مسؤولة عن دعامتين كبيرتين هما: العروبة والإسلام.” ويضيف، “عندما ندافع عن الإسلام، فنحن ندافع عن مفهوم عام لحضارة سميت عبر التاريخ الحضارة الإسلامية، وهي نتاج ما قدمته شعوب وأمم وأقوام وأديان. فأنت في الإسلام أمام تفاعلية مدهشة: الأديان كلها سلسلة مع الإسلام، بمعنى أن اليهودية المؤمنة والمسيحية المؤمنة والإسلامية المؤمنة كلها دين واحد (التوحيد)، وهذا الفهم المترسخ في مجتمعنا يقدم لك ما تراه من العيش المشترك، ونحن بوعينا في الدفاع عن العروبة والإسلام نجسد رسالة فكرية للأمة. وقرارنا في نشر الكتب ينسجم مع هذه الرسالة، فإن جاء كتاب ضدها . لا ننشره باسمنا وإن نشر، فإننا نحاور صاحبه لكننا لا نسجنه.” (2)
لا يتردد وزير الثقافة في الإقرار بأنه لا ينشر الكتب التي لا تدافع عن الإسلام ورؤيته هو للعيش المشترك. وهو بذلك إنما يحوِّل وزارته عن مسارها التاريخي الذي اتسمت به منذ تأسيسها، وهو مسار عقلاني تنويري نقدي. وهو يحول الوزارة من مهمة التنوير إلى مهمة الدفاع عن الإسلام. وأنا أدعي ههنا أن مهمة الدفاع عن الإسلام هي مهمة الأئمة ورجال الدين والدعاة، ولدينا منهم في العالم العربي ما يفيض عن حاجتنا، فما الذي يجعل وزير الثقافة إذن يضيف نفسه ووزارته وكادرها إلى هذه المهمة؟ إن هذه الرؤية هي التي تؤدي – فيما تؤدي إليه – إلى أن الوزارة التي نشرت أعمال تولستوي ودوستوييفسكي وبلزاك وهايدغر ورفاعة الطهطاوي ومحمد كامل الخطيب صارت تنشر كتبا مهمتها الدفاع عن الأديان.
أضف إلى ذلك أن الوزير يتبرع بالحديث باسم الأديان الأخرى. وهو ببساطة يرى أن اليهودية المؤمنة والمسيحية المؤمنة والإسلامية المؤمنة كلها دين واحد. هذه رؤية إسلامية للأديان الثلاثة، ولكن ماذا عن رؤية الدينين الآخرين الذين لا يتفقان بالضرورة مع هذه الرؤية؟ وماذا عن أتباع الديانات الهامشية الأخرى المتواجدين منذ آلاف السنين في سورية؟ وماذا عن اللادينيين الذين لا يريدون إدراج أنفسهم في أي من الخانات المذكورة أعلاه؟ أليس من واجب وزارة الثقافة الدفاع عنهم جميعا؟
أزعم أن الاعتداء السافر على التوجهات المعتدلة للمفتي لا يمكن أن تكون غريبة عن المناخ الذي يشيعه الإسلاميون (3) الراديكاليون وأتباعهم من المتأسلمين والشعبويين وعبدة الجماهير والعلمانيين الإنسانيين وعلمانيي الخطوة خطوة.” بالمقابل أزعم أن المفكرين الليبراليين والعقلانيين والمنفتحين والديمقراطيين والعلمانيين يتراجعون ويُخلون الساحة شيئا فشيئا للتطرف الغريب عن منطقتنا وبلدنا. والمفارقة أن ذلك كله يحدث في وقت بات فيه الفكر الأصولي يتراجع على صعيد العالم والمنطقة، مما يجعل سورية متأخرة حتى بالنسبة للأسلمة، ولسان حالها يقول “إلى الحج والناس عائدون.”
الهوامش:
1- نسبة لبلاد الشام التي عرف الإسلام فيها خلال قرون بالاعتدال والتسامح والبراغماتية .
2- جريدة بلدنا، 9/1/2010.
3- لا مبرر طبعا لأن نعيد التفريق بين الإسلاميين والمسلمين، حتى ولو حاول البعض التصيد في هذا المجال.
موقع الآوان