محنة الكتاب العربي
حسين العودات
افتتحت القاهرة معارض الكتاب العربي التي ستتوالى مواعيدها في المدن العربية طوال أشهر العام، إذ تقيم البلدان العربية ثلاثة عشر معرض كتاب سنوياً على الأقل. وقد اتفق الباحثون في الشؤون الثقافية على أن انتشار قراءة الكتب هي من حيث المبدأ، المؤشر الجدي والرئيس على ارتفاع المستوى الثقافي لأفراد المجتمع، ذلك أن القراءة تلعب دوراً فعالاً في تشكيل وعي الفرد ورفع مستواه الثقافي، وقدرته على المحاكمة والإبداع والخيال.
كما تساهم الكتب المتخصصة في تطوير قدراته المهنية وإمكانياته في كل مجال، وتؤهله للحوار والنقد ومعرفة حقوقه وواجباته وهي جوهر المواطنة، إضافة إلى مهمات أخرى عديدة تؤديها مطالعة الكتب، ولا تنوب عنها في هذه المهمة، لا وسائل الإعلام ولا معظم وسائل الاتصال الأخرى، سواء منها الصحف والمجلات والأقنية التلفزيونية والإذاعية، أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) أو غيرها.
والأسباب عديدة، تتعلق بطرق عمل هذه الوسائل وأساليب تداولها من قبل المتلقي، وطبيعة مرحلة التطور التي تمر بها شعوب العالم اليوم، والمفاهيم والقوى المؤثرة فيها، خاصة العولمة وهيمنة الاحتكارات وثقافة ما بعد الحداثة، التي من أهدافها الرئيسة الحرص على سيادة نمط الحياة الاستهلاكي، وإشاعة مفاهيم اللذة والعنف وقيمهما وسلوكهما، وتشويه الهوية الثقافية.
وتعميق مشاعر الدونية تجاه الثقافة والقيم والتقاليد الغربية، واجتثاث الفرد من ثقافته، وغرسه في ثقافة الاستهلاك والصفقات والربح السريع، وقتل الروح الوطنية، والسخرية من التعاون والتعاضد والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.
وعلى أي حال، ومهما كان مضمون الكتب، فإنها أكثر جدية في المساهمة في تشكيل الوعي، وأكثر جدوى من وسائل الإعلام الأخرى. ورغم تفجر الاتصال وتعدد وسائله وتنوعها وتطورها واستفادتها من علوم المعلوماتية وتطبيقاتها، فإن تراجع الكتاب لم يكن يتطابق عكساً بالسرعة والدرجة نفسها مع هذا التطور والتنوع، وبقي صامداً في وجه سطوة هذه الوسائل وهيمنتها في معظم بلدان العالم.
وخاصة في تلك البلدان المتقدمة التي كانت القراءة فيها تلاقي انتشاراً واسعاً، أعني الدول الأوروبية ودول أميركا الشمالية. فلم يتدهور الكتاب أمام تفجر الاتصال والإعلام والمعلوماتية وتعدد وسائلها، أو أمام انتشار «الإنترنت» أي الشابكة (كما سماها مجمع اللغة العربية)، أو الهواتف والحواسيب المحمولة أو غيرها، على عكس ما كان يعتقد الباحثون في الشأن الثقافي في بدء توسع انتشارها.
لقد أكد تطور وسائل الثقافة والإعلام عدم استطاعة أي وسيلة إلغاء الوسيلة أو الوسائل القائمة أو التي سبقتها، مع أنه يحصل بعض الإرباك لدى الوسيلة القديمة ومساحة انتشارها والاهتمام بها أول الأمر، لكن سرعان ما يعود التوازن بعد صدمة «الاندهاش» الأولى أمام الوسيلة الجديدة.
فعند اخترع السينما في نهاية القرن التاسع عشر مثلاً، ساد الاعتقاد أن توسع انتشارها سيؤثر سلباً على الكتب والصحف والمجلات ودورها الثقافي وأهميتها وفعاليتها في تشكيل الوعي، ولكن هذا لم يحصل.
والأمر نفسه تكرر بعد اختراع الإذاعة في مطلع القرن العشرين، ثم اختراع التلفزيون وتحوله إلى وسيلة إعلام جماهيرية في منتصف ذلك القرن. فقد كان الدارسون والمهتمون بالشؤون الثقافية في ذلك الوقت، يرون أن تحول التلفزيون إلى وسيلة إعلام جماهيرية سوف يؤدي إلى موت السينما، لكن ذلك لم يحصل أيضاً، والأمر نفسه تكرر في العقد الأخير من القرن الماضي، بعد انتشار «الإنترنت» والحواسيب وغيرها، فقرأ كثيرون الفاتحة على روح الصحافة والكتاب، إلا أنه.
رغم التأثير السلبي الجزئي على هذه الوسائل، عاد إليها التوازن إلى حد بعيد بعد حين واستعادت أنفاسها، وبقيت الحاجة إليها واضحة لا جدال فيها، وقد شهدنا ذلك بوضوح في البلدان المتقدمة التي كان انتشار وسائل الاتصال القديمة فيها واسعاً.
أما في البلدان المتخلفة (والتي يجاملها الدارسون بتسميتها نامية) فإن انخفاض نسبة انتشار الصحافة والكتاب التي كانت متحققة قبل تفجر الاتصال إزداد سوءاً بعده، لأسباب موضوعية تتعلق بمرحلة التطور التي تمر بها هذه المجتمعات، وارتفاع نسبة الأمية، وتدني الدخل، وضعف تقاليد القراءة أو انعدامها، وتجاهل خطط التنمية الثقافية وعدم الاهتمام بها، وغيرها من الأسباب.
نشرت صحيفة «الصباح» التونسية الأسبوع الماضي دراسة أعدتها اللجنة الوطنية للاستشارة حول الكتاب والمطالعة في تونس (وهي لجنة رسمية)، أن ربع التونسيين لم يقرأوا كتاباً واحداً في حياتهم، وأن ثلاثة أرباع التونسيين لم تطأ أقدامهم مكتبة عامة، رغم وجود حوالي ثلاثمئة مكتبة عامة في تونس وثلاثين مكتبة متجولة تغطي حوالي ألفي تجمع ريفي.
ولعل هذه الأرقام تدل على الحال الكارثي الذي وصلت إليه المطالعة في تونس، وعندما نتذكر أن هذا البلد العربي هو من أوائل البلدان العربية التي تهتم مجتمعاتها بالكتاب والمطالعة، ندرك الحال الثقافي البائس الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربية.
وتشير إحصائيات منظمة اليونسكو (وجميعها مأخوذة من الإحصاءات العربية الرسمية) إلى أن متوسط ما يكرسه الفرد العربي للمطالعة لا يتجاوز بضع دقائق سنوياً، وأن بلداً أوروبياً واحداً من بلدان الصف الثاني (كإسبانيا مثلاً)، يطبع ويترجم من الكتب بقدر ما يطبع ويترجم العرب في جميع بلدانهم، وليست الصحافة بأحسن حالاً من الكتاب، فنسبة أعداد الصحف المطبوعة إلى عدد السكان في البلدان العربية، تضع هذه البلدان في ذيل قائمة دول العالم، ولا يأتي بعدها إلا بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
لعل هذا الواقع الثقافي المتردي هو الذي يجعل المجتمعات العربية، بسبب هشاشة ثقافتها وبؤس إنتاجها الثقافي وضعف اهتمام مجتمعاتها بالثقافة، جاذباً للاختراق الثقافي، وتتقاذفها رياح العولمة الثقافية، وتهدد هويتها وكيانها.
البيان