تداعيات مؤجّلة !
خيري منصور
هذه ليست وصايا أو مواعظ على غرار تلك التي وجّهها الشاعر رينر ماريا ريلكه الى شاعر شاب، وليست هجائية مشحونة بالسخرية السوداء من عصر طفت فيه التفاهة على السطح، بسبب خفّتها وانعدام الجذور، انها مجرد تداعيات حال احتقانها زمنا دون الجهر بها، بعد أن كانت أشبه بحبات حنظل تنفجر تحت اللسان، وكل ما في الأمر اننا بحاجة الى تذكير بعضنا، كلّما أوشك الزهايمر الوبائي على افتراس الذاكرات، بأن الرداءة كما الجودة والامتياز هي سياق عضوي في كل زمان ومكان، ولا يمكن للباترياركية السياسية التي تحرم الناس من بلوغ الرشد ان تنفصل عن مرادفها الثقافي، لأن ما أنجب الأولى من رحم تاريخي واجتماعي هو ما أنجب الثانية كابن بكر، واحيانا كتوأم، وحين يسود الانحطاط ليشمل كل شيء لن تنجو الكتابة من ذلك .
وثمة مثال يحضرني دائما، هو ما كتبه وايتهد’عن المؤرخ جيبون الذي كتب عن سقوط الحضارة الرومانية وأسباب تدهورها، فقد قال ان اسلوب جيبون في الكتابة عن السقوط كان يشي بسقوط آخر، وتدهور حضارة أخرى هي الحضارة التي ينتمي اليها، واحيانا يكون النقد حاملا لداء المنقود، فالعدوى تتسرب من المريض الى من يحاول علاجه، وتجلى ذلك في الأدب مرارا، وللمثال فقط نذكر ما قاله اوبراين عن رواية ‘ الطاعون’ لألبير كامو، فقد رأى ان عدوى الطاعون تسربت من الشخوص الى المؤلف، لأنه تورط بلا وعي منه في اطلاق اسماء فرنسية تقليدية وخالصة على ابطال روايته التي تدور احداثها في مدينة وهران الجزائرية، لهذا لا ينفصل النقد عن المنقود حتى لو اعتلى منصة القضاء وتوهم أنه يجلس على مرتفعات تقيه من جرثومة العدوى ! وما يصحّ على النقد يصح بدرجة ربما تزيد على الترجمة، لأن الترجمة تتورط هي الأخرى بالمعطى المعرفي للمترجم وخلفياته الثقافية ومكوناته النفسية والتاريخية، لهذا ترجمت التراجيديا والكوميديا الى العربية في زمن ما على انهما المديح والرّثاء، لأن المناخ السّائد الذي يتنفسه المترجمون يعيد انتاج ما يترجمون وفقا لوعيهم ومعارفهم، وقد تصلح ترجمات شعر ت . س . اليوت السّبع الى العربية نموذجا لذلك، فثمة من ترجموا اسماء الأعلام على انها اسماء أمكنة، ومنهم من وضع المدفأة على السّقف او جعل المؤنث مذكرا، ان هذه مجرد قرائن نسوقها للبرهنة على ان المعرفة والثقافة واخيرا الحضارة سياق متصل وعضوي لا ينفع معه الانتقاء، بحيث لا يمكن للمرء ان يكون حديثا في الأدب وتقليديا في كل شؤون حياته وأنماط تفكيره وسلوكه، لأن المشهد عندئذ سيكون أقرب الى حفلة تنكرية يرتدي فيها امرؤ القيس ربطة العنق ويقود عربة حديثة، او تقف الخنساء ببنطال جينز أمام واجهة حانوت عصري او صيدلية !
ينبغي اذن تذكير الشاعر الذي يزهو بما حقق من انتشار تلفزيوني منقطع عن الشعر وأدواته ومتلقيه انه انما حقق هذا الفوز في عصر تفوقت فيه اغنية تبدأ كلماتها بمخاطبة حمار وتقول له : احبك يا حمار او اغنية لا يكاد صوت مغنيها ان يسمع في صخب استعراضي يراوح بين مشهد لسوق رقيق قديم وبين رقصة ستربتيز خرقاء، تحوم فيها عين الكاميرا وعين المشاهد معا حول الحدود الاقليمية للعورات !
كيف يمكن لكتابة ذات رهان تاريخي ووعي مفارق للسائد الداجن ان تنافس ركاما من البضائع الرخيصة المقلدة التي تباع للفقراء على الارصفة ! وتحقق لهم اشباعا كاذبا لا يتجشأون بعده غير زفير الحرمان ؟
كيف تصدق أنك مثقف مع اضافة عدد من الصفات كالعضوي والتاريخ وانت آخر من يعلم بما يحفر لك من كمائن، ثم تتوهم أن هامش الإهمال الذي تتمطى عليه وتتثاءب هو مساحة الحرية ؟ الاسئلة لا تنتهي قدر تعلقها بأوهام الضحية التي قررت ان تتجاهل السكين وهو يلمع ويتوهج نصله المشحوذ عن بُعد، لأنها تشبه تلك الضفادع الاسترالية التي لا تشعر بالألم الا اذا بلغ السكين أعلى الرّقبة او أسفل المخّ !
لم يحدث من قبل وفي أي انحطاط ان تم فك الارتباط بين الثقافة والسلطة التي تزدردها ومن ثم تبصقها لتصبح وجبات سريعة مقررة على الجياع الذين لا خيار آخر لهم، وهنا أتذكر تجربة اجراها احد العلماء مستلهما منجز بافلوف النفسي وما سماه التعلم الشرطي، الذي يتلخص برنين الجرس واقترانه بسيلان لعاب الكلب … قرأ هذا العالم قائمة من اسماء الاطعمة الحديثة والتي تقدم في المطاعم البرجوازية على جياع لم يتذوقوا الطعام ليومين، ووجد ان لعابهم لا يسيل ولا يتأثرون بما يسمعون لأنهم باختصار يجهلون تلك الاطعمة، وقد يتصورها البعض منهم اسماء لأشخاص، وقد حدث هذا بالفعل عندما ظن أحدهم ان طبق شاتوبريان هو اسم لشخص وليس طعاما !!
دلالة هذا ان’المتلقي الذي لا يشارك المرسل بأية شيفرة او مشترك معرفي يدير ظهره وقد يهز كتفيه ساخرا مما يسمع لأنه باختصار لا يعرف عمّ يتحدث الشخص الذي يوجّه اليه الكلام سواء كان منطوقا او مكتوبا !
* * * * * * *
في النظم الباترياركية التي تتأسس على مفهوم الوصاية والانابة وتأجيل سن الفطام حتى الخمسين او السّتين لا بأس أن يبقى شبه مثقف رئيسا لاتحاد او نقابة عدة عقود حتى لو كان قد جفّ وبلغ خريفه قبل ذلك بزمن طويل، والبلدان التي عرفت حطاما لا يصلحون لادارة ورشة نجارة ولا تنطبق عليهم حتى شروط السّخاوي او ابن خلدون كان ولا يزال لهم معادل ثقافي، فثمة روائيون بلا روايات، وشعراء بلا قصائد، ونقّاد موسميون بلا أي نقد يعتدّ به، لأن من تولى المعيار وقرر على الناس الاحتكام اليه هو سلطة تحذف الكفاءة لصالح الولاء وتعزل الفاعل عن الفعل، اضافة الى مهارة فائقة في تحويل الهزيمة الى انتصار، والعقاب والمساءلة الى أوسمة .
في سياقات كهذه من الطبيعي ان تطفو كائنات بخفّة الفلين وتنتصر التفاهة المسلحة على الابداع الأعزل الا من عناصره، وهي عناصر غير معترف بها، وهنا لا نريد الذهاب بعيدا بحيث نعقد مقارنة ساخرة بين مباراة كرة قدم ومحاضرة او امسية شعرية او موسيقية، لأن الغرائز الان في حالة هيجان، وما يسمى التصعيد في علم النفس هو الآن في أدنى مراحل التّسفيل !
عليك اذن ان تتذكر ولو مرّة في العام الوقت الذي تفوقت فيه اغنية الحمار او رقصة النعامة الخرقاء او فاز فيه في الانتخابات مهرب او تاجر في السوق السوداء او جنرال أحصى اوسمته بعدد الهزائم كي لا تصدق ما يغدقه عليك هذا المذيع الأمي او تلك المذيعة الساذجة التي عيّنت بالواسطة من ألقاب ونعوت، عُد الى نفسك قليلا وتأمل ما تعتقد انه انتصارات، لعلّك تدرك لحظة صحو بأنك سواك وبأن ما تعتقد بأنه الذهب او الماس قد تحدد وزنه بميزان البصل او البطاطا !
انت تعرف حكاية المهرجانات والمهراجات وكيف تصل اليك الدعوة وممن ولماذا، ولعلّك تدرك أن استبدالك في حالة اعتذارك بقطعة غيار أخرى من الصندوق العملاق ليس صعبا، لهذا لا توهم نفسك بأنك امتلكت ما عزّ على سواك، لكن النفس الأمارة بالسّوء، والتي تنتج ما يسمى التفكير الرغائبي تدفعك الى ان ترى ما تريد فقط، لهذا تصدّق’أنك المعني في هذه الحفلة التنكرية ويغيب عنك ان الكومبارس ضروري احيانا، وكذلك الاكسسوارات. تذكّر ايضا انك تكتب في نهاية العقد الاول من القرن الحادي والعشرين من الألفية الثالثة، في زمن تحتل فيه العواصم الكبرى وحواضر الحضارات بثلاث دبابات فقط، ويذبح فيه ألف طفل يلثغون بالأبجدية التي تكتب بها في شهر واحد، وتذكر ايضا أنك رهينة في كل المقاييس، وأسير في عقر دارك، وقد تكون طيلة حياتك لم تنتخب احدا ينطق باسمك، ويعلن الحرب التي لم تفقد ذراعك او ابنك فيها باسمك ثم يعلن السلام ايضا باسمك ..
انك لست هنا، ولست هناك، ولست انت على الاطلاق، ومعذرة اذا كنت قد ادخلت شعرة الى طبق حسائك او فنجان قهوتك فهذه ليست مواعظ بقدر ما هي تداعيات مؤجّلة، وان كنت اعرف ان لكل دونكيشوت قرينا من طراز سانشو يبلغ الاخرين بانتصاراته، وهي انتصارات لم ينل منها فريسة الوهم قلامة ظفر كما قال احمد شوقي في مسرحية عن يوم ‘إكتيوم ‘ …..!