العدو المسكوت عنه
خيري منصور
لم يكن غرامشي هو مخترع الحقيقة التاريخية التي تقول إن لكل شريحة أو فئة من المجتمع البشري مثقفيها، الناطقين باسمها والذين يبشرون بأحلامها، فهذه الحقيقة كانت قائمة منذ أقدم العصور لكنها بحاجة إلى من يكتشفها، تماماً كما أن جاذبية الأرض لم يخترعها نيوتن بل اكتشفها وهي التي ولدت في هذا الكون قبل أن يولد بآلاف وربما ملايين السنين.
والسلالة الثقافية التي دافعت عن قيصر ضد السماء استمرت في دفاعها عن الشيطان أيضاً لأنها ذرائعية لا تقيم وزناً لما يتجاوز معيارها الربحي، ومصالحها الآنية العاجلة.
هؤلاء، سوغوا مظالم وكانوا المحامين الأكثر دفاعاً عن الخطأ، تماماً كما أن هناك كائنات في الطبيعة تتضرر من النظافة، وترفع شعار مصائب قوم عند قوم فوائد، إنهم ملكيون وجمهوريون، رأسماليون واشتراكيون قضاة ومجرمون، ويعتقدون بأنهم صالحون لكل زمان ومكان، ما دامت لديهم القدرة الفائقة على مهارة التأقلم بأسرع مما تفعل الحرباء، وصفهم حكماء وشعراء وحذر منهم حتى الأنبياء، لأنه ما من حدود فاصلة بالنسبة إليهم بين الدم والحبر الأحمر أو بين اللسع والعسل، إنهم جاهزون للبرهنة على استطالة الأرض، وشروق الشمس من الاسكيمو، ما دامت الجهود المعروضة للإيجار مدفوعة الثمن.
منهم من احترف الدفاع عن الأحياء من الزعماء ضد الموتى، لأن الحي هو الأبقى من الميت وفق نواميسهم.
غنوا في مآتم قومية وبكوا في أعراس وطنية، ولفرط ما زوروا وقلبوا الحقائق أوشكوا أن يفقدوا الناس ثقتهم بالكلمة المطبوعة، وفي عالمنا العربي لم يكن الأذى الذي تسبب به هؤلاء أقل من أي أذى تسبب به الغزاة، لأنهم كما يسميهم جيري روبين الديدان التي تقضم الأحشاء من الداخل، أو السوس الذي ينخر الخشب سواء كان لقيثار أو كعب بندقية أو لصولجان، وقد حول هؤلاء المحترفون ثقافة التسويغ والتمرير إلى نمط انتاج، يتكسبون منه حتى لو كان الثمن لحوم الأطفال المحترقة، أو الأعداد الغفيرة من الأرامل والأيتام والمشردين، وثبوا برشاقة من حدائق الأباطرة إلى غابات الثوار، ولبسوا لكل حالة لبوسها بحيث تحولت سيرة حياتهم إلى حفلة تنكرية بلا نهاية، ولم يحتاجوا لكي يحولوا المديح إلى هجاء إلا لتغيير اسم الممدوح أو المهجو، أما الخطاب المعلب وفاقد الصلاحية منذ ألف عام فهو لا يزال متداولاً في بورصاتهم بشروا بالمقاومة ثم كانوا أول من أدانوها ودقوا الطبول لثورات وكانوا أول من أحصوا مثالبها وما ألحقت من أذى بالأمة.
إنهم نرجسيون لا يرون على صفحة الماء أو الدم إلا صورتهم، ولا يشمون غير روائحهم، ولا يسمعون إلا صدى أصواتهم، لهذا فالآخرون بالنسبة إليهم مجرد بضاعة، وحمولة بشرية توزن بقبّان البصل لا بميزان الدمع والماس، وراهن الناس على نهاية هذه السلالة بعد كل هزيمة كبرى أو صحوة أعقبتها، لكن المبيدات سواء كانت حشرية أو بشرية قد تؤدي إلى إدمان بحيث يتغذى الذباب على مبيداته ويسمن بها، لكن الذي يموت هو طائر الشحرور. وهذه مفارقة أعلنها علماء أمريكيون اكتشفوا أن ضحية ال”دي. دي. تي” الذي صمم لابادة الذباب تحول إلى لقاح ولأن طائر الشحرور يتغذى على الذباب فهو الذي يموت على الفور من تلك المبيدات، ان هذا العدو المسكوت عنه والمؤجل هو شاهد الزور والدليل الذي كذب أهله ولسنا بحاجة إلى غرامشي آخر يفسر لنا الظاهرة.
الخليج