معجزة سالنجر
عباس بيضون
توفى سالنجر، انتهت الأسطورة، في الحقيقة بقيت الأسطورة، لن نعرف من مات حقاً وماذا مات، توقف سالنجر طوعاً عن الكتابة. تلك هي ببساطة أسطورته. اصر عليها حتى انه رفع دعوى على ابنته التي زعمت انه لا يزال يكتب. إذا كان لا يزال يكتب وتوقف عن النشر فهي أيضاً أسطورة، ان يكتب سالنجر، وينشر فهذا بسيط وعادي. معجزته انه لم يعد يكتب او لم يعد ينشر. معجزته انه فعل ذلك حين كان قادراً بعد على ان يكتب. لا نعرف لماذا فهو لم يقل. تركنا نشعر ان الغياب هو فعلاً مؤلفه الآن، لو كان سالنجر أقل شأناً لما بالينا. لقد نجح كثيراً لدرجة ان غيابه ظل في أهمية حضوره. لدرجة ان غيابه كان فاعلاً كحضوره. غيابه، بكلمة أخرى، كان عملاً. في قصة لألبير كامو نرى ان عمل الفنان الذي اعتزل كلياً من أجله لم يكن سوى لوحة بيضاء. سالنجر اعتزل من أجل تلك اللوحة البيضاء، هذا ما يستطيع سالنجر وحده ان يبدع فيه. لكن السؤال الذي يبقى هو: متى يتوقف المرء عن الكتابة، متى يتوقف قبل ان يرغمه على ذلك عارض. قبل ان يستسلم يائساً لشيء كهذا؟
متى يتقاعد الكاتب؟ في الغالب لا يتقاعد الكاتب. انه يريد حياة أطول ليستمر في العمل. في أي عمر يكتب؟ يكتب لأنه شاب ويكتب لأنه كهل ويكتب لأنه شيخ، انها جميعاً أسباب قوية ليكتب وكل شيء يمكن ان يكون واحداً من الأسباب. ان يحب أو ان يخيب في الحب. ان يربح وان يخسر. ان ينجح وان يفشل. ان يجوع وان يثري. ان يمرض وان يبرأ من المرض. ان يكون جميلاً او ان يكون قبيحاً. ان يحبه الناس وان يكرهوه. ان يجد عائلة وان يفقدها. ان يسعد وان يحزن. ان يشتهر وان يبقى مغموراً. كل شيء يستحق ان يكون سبباً ليكتب. انه يحب النجاح والمجد والمال والشهرة لكنه يستمر يكتب بدونها كلها. الكتابة ليست فقط مهنة لنتقاعد فيها، ليست رهاناً فحسب، وليست بحت مقامرة، انها، ادمان. بكل قسوة الادمان وعبوديتنا له ومعاناته المؤلمة وأخيراً سيزيفيته. ادمان نعم وحين يبتعد النص اللعين، حين لا يعود يؤلم ولا يثير الكره ولا الشكوك يلجأ الكاتب الى الآخرين ليحبوه رغم كل شيء. ليقبلوه رغم ثغراته الظاهرة والواضحة حتى للأطفال. الآخرين الذين لا يدققون كثيراً او هم لا يبالون بالكمال وأحياناً يطلبون من النص كل شيء إلا ان يكون بديعاً.
متى يتوقف الكاتب. دائماً لا يعرف اللحظة. دائماً تفوته اللحظة. يأتي يوم لا تعود له طاقة على المقاساة. او يعتمد اكثر مما يجب على حب الآخرين. لكنه غالباً ما يكمل. لا بد ان يكون إلهاً لكي لا يحتاج الى ان يضع شيئاً، لكي يستطيع ان يختفي ويحتجب. سالنجر تصرف كإله، من هنا أسطورته. مات في الواحدة والتسعين. انها عمر الآلهة أيضاً. سيظن كثيرون انه كان دائماً في السماء.
السفير