صفحات ثقافية

بلا ضفاف

null

سمير قصير

ليس المطلوب هذا المقدار من التحول. طبعاً، لم يصدر شيء رسمياً عن دمشق، لكن ما تجمّع من مؤشرات وتسريبات في الاسابيع الماضية حول احتمالات احياء المسار التفاوضي السوري – الاسرائيلي كان كافياً لإشاعة جو من التساؤل القلق ليس فقط عند الذين ظلوا يصدّقون خطاب الصمود والتصدي في دمشق، ولكن ايضاً عند الذين يطالبون القيادة البعثية في سوريا بالتأقلم مع الاوضاع الاقليمية الجديدة قبل فوات الاوان. ويزيد من هذا القلق ان آخر هذه التسريبات الكلام المنسوب الى الرئيس المصري حسني مبارك الذي ذهب الى ان الرئيس السوري بشار الاسد مستعد للقبول باستئناف المفاوضات مع اسرائيل “بلا شروط مسبقة” اذا تعذرت معاودتها من حيث انتهت، بحسب العبارة المعروفة.

فهذا ليس التأقلم المرجو. بل هذا ليس المطلوب صراحة من الولايات المتحدة. صحيح ان الادارة الاميركية سوف تنفرج اساريرها لو تحركت عجلة المفاوضات على المسار السوري – الاسرائيلي، وانها ستنشرح اكثر فأكثر لو افضت هذه المفاوضات الى اتفاق سلام سريع لم تكن تتصور واشنطن قبل حين انها تستطيع مطالبة دمشق به. فما يعرف عن لائحة المطالب الاميركية الى سوريا التي جاء بها قبل اشهر وزير الخارجية كولن باول، لا يلحظ اتمام السلام مع اسرائيل. ولكن يبدو ان ثمة في الديبلوماسية العربية، وربما في دمشق نفسها، من يعتقد انه قد يكون من الاسهل محاولة ارضاء الولايات المتحدة من خلال التلويح بملف لم تفتحه هي بدل السعي الى مراعاتها بالقبول بعدد من الاجراءات الجزئية. مع العلم ان التجاوب مع هذه الاجراءات المطلوبة اميركياً قابل لأن يصب في مصلحة سوريا الاستراتيجية ومصلحة جيرانها العرب كذلك. او لِنقل انه لا ينطوي، حتى في الحسابات السلطوية، على المعنى التاريخي نفسه الذي يحمله احتمال اقفال الصراع العربي – الاسرائيلي في شقه السوري.

أليس تأمين الحدود العراقية، مثلاً، اهون من السير في آلية قد تؤدي الى ترسيم الحدود مع اسرائيل على عجل؟

أليس نزع اسلحة “حزب الله” خطوة اقل “نهائية” من الدخول في مفاوضات جديدة تجعل الاميركيين، ناهيك بالاسرائيليين، يرفعون سقف مطالبهم من جديد؟

أليس فك التحالف مع “حماس” و”الجهاد الاسلامي” اقل تعريضاً لمستقبل القضية الفلسطينية من الايحاء الى المجتمع الاسرائيلي انه يستطيع تجاهل خيار التعايش مع دولة فلسطينية مستقلة؟

أليس التخلي الطوعي عن نظام الوصاية المفروض على لبنان اقل تعريضاً للحكم السوري من الدخول في عملية تعيد سوريا الى مرحلة ما قبل القوة الاقليمية؟

أليس الاصلاح الداخلي وولوج درب التحول الديموقراطي اكثر ضماناً للمستقبل من الاتكال مرة اخرى على الجغرافيا السياسية لضمان الاستقرار السياسي في سوريا؟

لم تكن هذه الاسئلة لتطرح نفسها، مهما تكن وتيرة التسريبات، لولا حدثين حصلا في الاسابيع الاخيرة. الاول هو السابقة التي سجلها الرئيس القذافي حين ادرك بسرعة تستدعي الاعجاب ان الكلام الاميركي (والبريطاني) المعسول حول الديموقراطية يخفي مسعىً لفرض الولاء اكثر مما يرمي الى تغيير الثقافة السياسية في المنطقة. فمع كل خصوصيات النظام الليبي، فانه يحمل ما يكفي من التشابه مع ما هو سائد في سوريا ليدفع الى التساؤل عما اذا كان احدهم في دمشق قد وصل الى الخلاصات نفسها، وان تكن تلك الخلاصات تترجم “اسعاراً” مختلفة في كل من الحالين. فاذا كان العقيد قد باع الاميركيين ما لم يكن يملكه، فان اي رهان سوري مماثل سوف يعني ان دمشق ستضطر، اذا شاءت الوصول الى نتيجة سريعة، الى الذهاب ابعد من مسألة اسلحة الدمار الشامل، المشكوك في وجودها هنا ايضاً. اما الحدث الثاني فهو زيارة الرئيس الاسد الى تركيا بما رافقها من تأويلات.

على مستوى العلاقات العامة، شكّلت هذه الزيارة نجاحاً بلا شك، ولا سيما انها كانت مناسبة جديدة لظهور عقيلته الشابة والانيقة وولديه الصغيرين، مما اضفى عليها طابعاً من الحداثة والبساطة تفتقر اليه عادة صورة سوريا في الخارج. الا انها زرعت الشك في عقول كثيرين ممن ظلوا يأتمنون القيادة البعثية على صلابة الموقف القومي. ليس لأنها جرت من دون اي اشارة الى “اللواء السليب”، وهذا قد يكون مشروعاً نظراً الى موازين القوى، فضلاً عن حركة التاريخ الديموغرافي في ساحل اسكندرونا وانطاقيا منذ اكثر من ستين عاماً، بل لانه رافقها كلام، وان غير رسمي، عن دور تلعبه تركيا في احياء المفاوضات. وتركيا هي، كما يذكر، الدولة التي اعتبرت قبل فترة ليست بعيدة صنو العدو الصهيوني، بسبب اتفاق التعاون الاستراتيجي الذي عقدته مع اسرائيل في عز الازمة السورية – التركية الاخيرة عام .1998 وجاءت تسريبات تركية نسبت الى الرئيس الاسد باستعداده لاعادة النظر في موقف والده من ضفة بحيرة طبريا، لتعزز عند الرأي العام احتمالات الوساطة التركية.

طبعاً، قد يكون الكلام المتكاثر عن احياء المسار السوري – الاسرائيلي مجرد فقاعة ضخّمتها الرهانات الاسرائيلية على ما قد يحوّل الانظار عن جدار الفصل في فلسطين، وقد يكون ايضاً بالونات اختبار تطلقها دمشق او العواصم العربية التي تريد لها الخير. لكن الصمت الرسمي السوري يؤدي في الحالين الى نتيجة واحدة، هي رفع حجم الرهان الاميركي والاسرائيلي. فاذا كانت الولايات المتحدة لم تضع التطبيع مع اسرائيل في لائحة مطالبها المقدمة الى دمشق، فانها قد تتشجع الآن على ذلك، وخصوصاً خلال هذه السنة الانتخابية وفي حضور كونغرس ملتزم في معظمه المصلحة الاسرائيلية، وقادر على التسلح باداة حرب اسمها “قانون محاسبة سوريا“.

وهذا تحديداً ما يجعل تبديد التساؤلات امراً ملحاً. لكن ذلك لن يتأمن بمجرد استعادة خطاب الصمود والتصدي الذي لا يجدي ويظل عند المشككين موضع تشكيك، بل يتطلب تأكيداً واضحاً بأن السياسة السورية ليست سفينة حائرة في بحر بلا ضفاف، اللهم الا الضفة اللبنانية، ويمر بخطوات توحي على العكس انها سائرة على خط مرسوم بثقة، يسعى الى الاقلمة بين مقتضيات ارضاء القوى العظمى ومصلحة السوريين (واللبنانيين معهم) في اطلاق عجلة التغيير بقرار ذاتي.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى