صفحات الجولان

بعد عامك الستين أخاف أن يخذلك العمر قبل أن أضمك يا أمي.

null

في مكان أقل ما يقال عنه سجن تبدو هذه اللفتة الإنسانية المتأخرة غريبة عنهم ومهمة جداً لنا، ولأسرانا الذين يحسون اللمسة أو الضمة عمرا أخر من الأحلام.

سلطات السجون الإسرائيلية تسمح لكل من الوالدين الذي تجاوز عمره الستين بالتقاط صورة له مع ابنه الأسير.

لحظات حرية

الأسير كميل خاطر

اصطففنا بانتظام كما طلاب المدارس الابتدائية، ببزاتنا البنية المتشابهة أمام باب فولاذي مصفح لا يشبه الأبواب، خاضعين للتفتيش الروتيني قبل وصولنا إلى غرفة الزيارة على أيدي أربعة سجانين يخبئون حقداً لا متناهيا في وجوههم.

وبعد مرورنا من باب التفتيش عبرنا بسرداب طويل يصل القسم بغرفة الزيارة، والذي يشبه سراديب الحيوانات المفترسة التي تساق إلى حلبات التعذيب والسيرك. وعند وصولنا إلى غرفة الزيارة صرخت مشاعري كطفل دون أن استطيع ملامسة أي من القادمين والذين انشدوا معنا منذ البداية أغنية الرحيل الطويل المليئة بالعذاب. اغرورقت عيناي عندما أمسكت السماعة الوحيدة والتي من خلالها أتحدث مع أعزائي مرة كل أسبوعين. حين رأيت طفلة تبكي وأمي وأختي يتكلمون بصمت مع بعض الإشارات لأن اللوح الزجاجي الفاصل بيننا كاتم للصوت، والسجان لم يقرر بعد الضغط على المفتاح لتصل كلماتنا المبعثرة والمقتضبة عبر السماعة.

بعد تهافت تنهيداتي ومشاعري دون انتظام ركوعاً سجوداً أمام عظمة الزوار وقيمة اللقاء الإنساني. تسارعت الذكريات والكلمات وتكلمنا عن أشياء كثيرة، ولكنني أحسست بغصة وغبطة معا حين أخبرت أمي بأننا أقوى من السجان والسجن، كانت هذه رغبتي لأضع قليلا من الطمأنينة في قلوب من أحب ليس إلاّ. وحين كانت أمي تقول لي بهدوء الواثق وإصراره “يا بني مثل وطننا جيداً فالوطن حنون وكل المضطهدين سوف يرحلون”، اخترق كلامنا صوت من الخلف لشخص مقيد إلى الأبد بثيابه ونياشينه يقول:”تمت الموافقة لك على الطلب الذي قدمته قبل فترة للتصوير مع والدتك وسينفذ الآن”.

بصمت مذهل ومروّع، بغصة وتأثر خانق بدأت أتقدم.. لوعة اشتياق للطفولة انصبت متزاحمة في خيالي، والوجوه القديمة التي حملتها بتشبثٍ رفيقة لوحدتي الموحشة بدأت تمر كأنفاس متقطعة والجو ما يزال يشوبه الارتباك والانتظار. انتظر ضمة دافئة لتوقظ الحياة بعروقي بعد كوم من الأعوام المتراكمة.

في هذه الأثناء استرقت النظر كعادتي إلى السماء المقطعة على شكل مربعات صغيرة متوازية من فعل القضبان الفاصلة، لأرى وجه أمي في الشمس، الشمس التي تحرق نفسها لإرسال الدفء لأبنائها الكواكب، وتصمد في محورها لتجذب وتشد لصدرها أي طفل ضعف من أطفالها خوفاً عليه من الهروب في الكون الكبير، عندها طلّ ساطعاً ضوء الآلهة من وجنتي أمي وكأنها تجري مستهدفة “نبتة الحياة الأبدية”. يداها مشرعتان على اتساعهما كالنسر الذي يفرد جناحاه ليضم ابنه ويحميه من قاتل الشمس والحرية، الندى حزين يذرف من عينيها الجميلتين وصوتها العذب الشجي يرتل كلمات لم افهمها جيدا.. وحين اقتربت مني أكثر فهمت بعض تغريدها المتواصل: “يا قباري..يا عيوني… قطعت قلبي.. ليتني استطيع فرش جفوني أمامك…ليتني”، فضوء عينيها المشعتين طلت نحوي كالنوارس التائهة في البحر، فالزمن وآلامه الموجعة صنعت أثلاماً أخرى على جبينها المحاط بشال أبيض ناصع ذكرني بمدى عشقها للأرض وتمسكها بها.

وقفت على بعد خطوات منها انتظر بشغف وصولها لعدم مقدرتي التقدم أكثر من البعد المحدد لي سلفاً، اكبت صوتي محاولاً إخماد ناره خوفاً من لحظة ضعف أمام الحراس المحيطين بالمكان.

اقتربت أمي أكثر وصدى صوتها يصدع أركان السماء الميتة، فتقلصت أمامها كما طموح الأسير، انتظر … وحين وصلت إلى حيث أقف ضمتني على صدرها الحنون ففاحت منها رائحة الوطن، ودموعها ما زالت تتدفق بسخاء كينابيع جبل الشيخ تجرح خدودها وفؤادي، فطأطأت رأسي حين لامست جزءاً من الحرية، وقبّلت يديها من بعد جبينها فطبعت قبلاتها المتسارعة على خدي..جبيني وعنقي، وذراعاها تشدني نحوها بقوة، فهمست بأذني كهمسات ملاك: “استمر يا بني من أجل الحرية”، كلامها سقط على مسامعي كصوت الآخرة على ناسك زاهد متعبد، وكشعاع يضيء ليالي ووقود يدفئ أيامي الباردة، وعندما التقط المصور لنا ثلاث صور كنت شارد الذهن كالميت وأمي تنتحب فوق رأسي، لا أذكر سوى إنني كنت أعيش السعادة كلحظة مهددة ومسلوبة كالفقراء، وحين كنت كلوح من الثلج في أحضان بحر كريم، شدني الحارس من يدي اليسرى معلناً انتهاء اللقاء، بقيت أمي تلوح بيديها السمراوين وحين اختفت عن أنظاري تماماً رأيت أشلاء ضوء متناثرة من فتحة صغيرة في الجدار الأول تصرخ لعيوني للنظر من خلالها، فرأيت أمي ما زالت واقفة كنبي تتأمل هناك وتجفف دموعها بمنديل أخضر، ارتعدت حين صرخ الحارس محذراً دون مقدمات ولا نحنحة، لملمت أشلاء جسدي عائداً قسراً لزنزانتي.

مر الوقت كلمح البصر، هتف أحد الرفاق: “أخذت قليلاً من وقت الأسير الثاني”… فقال الثاني من الطرف الآخر “ذاب قليلاً من العمر”.. مرفقاً كلامه ببسمة، فارتميت على سريري الموحش انتحب بصمت لأنها لم توافق بأن أقبل قدميها المناضلة.

ضمة… قبلة… لحظات

امتثال الولي

منذ عشرين عاماً انتظر…

أهي حقيقة أم أغنية قد سمعتها “أحن إلى خبز أمي… وقهوة أمي… ولمسة أمي”

صمتك وحيرتك جعلتني اشعر بإحساس غريب، عندما رأيت الدمع في عينيك والصمت والحيرة على شفتيك، والفؤاد يعتصره العطف شعرت إن الحمل قد زاد عليك.

عندما هربت الكلمات وتاهت في الأفق البعيد، زهرت واخضرت لكنها صمتت فقررت الشفاه أن ترسم قبلة، وتترك الكلمات تهرب بعيدا، بعد ضمة قصيرة وعناق للحظات.

آه…آه… لهذه اللحظات شعرت أن ضمة صدرك، وقبلة على خدك هي أقوى من كل شيء في الدنيا.

– أما أنا لم استطيع أن أضمك إلى صدري واقبل وجنتيك وان المس يديك إنما شعرت بالحنان في عينيك.
موقع بانياس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى