صفحات ثقافية

بقعة الضوء

null

سمير قصير

ربما كان يجب ان تصل الجمهورية اللبنانية الى ما بلغته من انحطاط ومهانة في صيف وخريف 2004 حتى يحل عليها شتاء يحمل وعود الربيع. ربما كان يجب ان يشعر السواد الاعظم من اللبنانيين بأن قوة عمياء تريد كسر توقهم الى التغيير حتى يبدأوا استجماع عناصر التغيير. ربما صار على اللبنانيين ان يضحكوا في عبّهم من سكرة العظمة التي اعمت بصيرة اهل البعث المتبقي في دمشق. فهم يدركون الآن، مثلما يدرك عدد متزايد من السوريين، ان غلطة الشاطر التي وقع فيها الحكم الموروث من حافظ الاسد، باصراره على التمديد للرئيس المنتهية ولايته في لبنان، فعلت لحرية لبنان اكثر من العديد من تظاهرات المعارضة.

طبعاً، لا يعني الوقع الدولي او المحلي، المترتب عن خطأ بهذه الفداحة، ان جهود المعارضة كانت من دون معنى. على العكس تماماً، تستطيع المعارضة، اذ تطوي هذا العام، ان تهنئ نفسها على ادائها في معركة ارادها الحكم البعثي معركة “كسر عظم”، لكنه اضطر في محصلتها الى كسر كل قواعد اللعبة. اكثر من ذلك، فإن المعارضة تستطيع ان تطمئنّ الى وجود قوى لا تزال حيّة في المجتمع اللبناني، ولعل الاكثر حيوية فيها الصحافة التي كانت في المقدم خلال هذه المعركة الطاحنة.

كان يمكن ولا ريب الوصول الى ما هو افضل، مثلاً لو لم يخذل الرئيس رفيق الحريري جمهوره وضميره او، بشكل اعم، لو وجدت دزينة نواب يملكون ما يكفي من الشجاعة للانضمام الى “لائحة الشرف”. الا ان فشل المعارضة في منع التمديد لم يكن هزيمة، وهذا الاهم لمستقبل هذا البلد، اذ انها خرجت من المعركة اكثر قوة ووحدة مما كانت في اي لحظة من مرحلة ما بعد الحرب، وتقدر اليوم على استشراف التغيير الذي حرم منه المجتمع اللبناني بفرض التمديد.

لا احد يتوقع ان تكون الامور سهلة في الاشهر التي تفصلنا عن موعد الانتخابات النيابية (وهو لا يزال مجهولاً). بل ان كل يوم يمر يجعل المعارضة تستشعر عثرات بالعشرات تعوق مسيرتها نحو التغيير. لكن الشجرة لا تخفي الغابة التي وراءها. والغابة التي لا يمكن التعامي امامها تتمثل في ظاهرة افول نجم المتبقي من البعثين وتحول “سوريا الاسد” بلداً “ضعيفاً جداً” في عرف العلاقات الدولية، مع ما يقابل ذلك من صعود للمعارضة اللبنانية وانتشار لطروحاتها. وتكفي لتبين ذلك مقارنة سريعة بين ما كان يقال قبل سنتين فقط، حين كان الحديث عن انسحاب سوري ووضع حد للوصاية المخابراتية يُعد ضرباً من الخيال، وما صار كلاماً يومياً الآن عن كف يد المخابرات السورية وانهاء الادارة السورية للبنان. وقد جاء امس موقفا كل من الرئيسين سليم الحص وحسين الحسيني ليؤكدا اتساع خطاب المعارضة.

صحيح انه لا يجوز التسرع واعتبار مصارحة الرئيس الحص لـ”الاسد الشاب الواعد”، كما سمّاه، التحاقاً بجبهة المعارضة، وإن تكن الموضوعات التي قاربها في كتابه الى “قادة الرأي في لبنان وسوريا” تتقاطع مع الطموح الاستقلالي الى استعادة اتفاق الطائف، ووقف تدخل اجهزة الامن العسكرية (السورية واللبنانية بالتلازم) في “شؤون داخلية لا تعنيها”. ولا يمكن ايضاً وصف مناشدة الرئيس الحسيني الرئيس السوري العمل من اجل “مساعدة اللبنانيين على اظهار قانون انتخابات نيابية يسمح باعادة تكوين سلطات الدولة”، انتقالاً من موقع المعارضة بالمطلق الذي يقف عنده ابو الطائف، الى موقع الفاعل في الجبهة الاستقلالية الآخذة في التشكل، وإن يكن الرئيس الحسيني مرشحاً طبيعياً ليكون احد اقطابها. كما انه لا يجوز، في اي حال من الاحوال، نسب المواقف التي تتخذها شخصيات من عيار الرئيسين الحص والحسيني الى انتهازية ما. الا انه يجوز في المقابل ادراج هاتين المحاولتين في خانة البحث عن مخرج لخروج الحكم السوري من مأزقه اللبناني، وخروج الجمهورية اللبنانية من القعر الذي بلغته خلال العام المنصرم.

بيد ان المتبقي من البعثين ومن موالي احدهما في لبنان لم ينتبهوا بعد الى انهم في آخر ايامهم. كل شيء، السياسة الدولية، اجتياز المعارضة الامتحان بعد الامتحان، التداول العلني حول ما سيؤول اليه لبنان بعد نهاية الوصاية السورية، كل شيء حولنا يقول ان الاشهر المقبلة سوف تشهد تحوّلاً جذرياً في الحياة الوطنية اللبنانية. لكن صغار القوم في اروقة السلطة لا يزالون يتصرفون كأن حريتهم مطلقة في التعسف والتهديد ونبش الملفات وعصر ما تبقى لهم من ذكاء من اجل تعليب الجسم الانتخابي بما يتلاءم مع الوفاء لـ”سوريا الاسد“.

حسناً يفعلون، فاذ يكررون غلطة الشاطر صباحاً ومساءً، لا ينتبهون الى انه يأتي يوم في تاريخ الشعوب لا يعود القهر ينفع فيه، بل تصبح مفاعيل القهر معكوسة.

لقد وصل لبنان الى هذه النقطة حين يزيد سواد النفق من لمعان بقعة الضوء في نهايته القريبة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى