الدين كحالة جنون
مازن كم الماز
هذا الحكم نصدره عادة ضد الأديان الأخرى – أو التي نصفها بأنها غير حقيقية أو وهمية أو زائفة , ما عدا الدين الذي ورثناه عن آبائنا و أجدادنا , تستثير فينا طقوس الأديان الأخرى و تصوراتها عن الكون , الأرواح , الموت و ما بعد الموت , الرغبة في السخرية تماما كما تستثير طقوس ديننا المتوارث و تصوراته عنا و عن العالم سخرية الآخرين….يجب هنا التأكيد أن لهذا مصدر أساسي هو لاعقلانية الدين و قيامه على تصورات و أفكار غير منطقية إلى حد كبير , الشيء الذي يمكننا أن نلمسه عندما نتخلى عن هالة القداسة التي تحيط به عندما نتعامل مع أديان أخرى يفترض أن نكفر بها….في الحقيقة يقوم الدين على آليات عقلية تندرج تحت الجنون , إنه ابن الهذيانات و الإهلاسات , البصرية و السمعية , التي تسمى بالوحي , الكشف , الاتحاد والحلول , ومن جهة أخرى فإنه يعيد بناء الكون وفق مخيلة منفلتة تمنح لنفسها حرية مطلقة في تصور أرواح شريرة و خيرة و عوالم خيالية : آلهة و ملائكة و شياطين و مستويات غير واقعية من العذاب و الألم و السعادة….لكن الدين هو نتاج مخيلة فرد أو عدد محدود جدا من الأفراد , و هو مخيلة قمعية تقوم بقمع أي خيال لاحق و تحرمه و تكفره , إنه ممارسة للجنون تقصي الجنون , ممارسة للخيال تقصي الخيال و ترفضه بأن تحول الخيال أو نتائج الجنون إلى ما يشبه واقع نراه بأعيننا , إنها تقصي أي ممارسة لاحقة لإعادة إنتاج العالم عبر الخيال و غيره من آليات الجنون و تكتفي بخيال فرد واحد أو عدة أفراد مع حرمان سائر الإنسانية من الحق في إعادة إنتاج العالم خياليا و لذلك فإنه يندمج بكل سهولة و يسر بكل أشكال القمع السياسية والاجتماعية الأخرى القائمة على إقصاء المجموع لصالح أقلية محدودة جدا من الأفراد….لقد ظهرت التخيلات الدينية تقريبا في نفس الوقت الذي ظهر فيه الوعي الإنساني , أي أن الجنون بممارساته و تصوراته اللاعقلانية ظهر على الفور مع الوعي الإنساني , مع العقل , كجزء مكمل للتفكير العقلاني الذي كان يشعر بعجز هائل أمام الطبيعة , و كان يتمظهر بعدة أشكال منها الشكل البطريركي الديني الجمعي و منها الشكل الفردي المرضي , الظروف الاجتماعية و ظروف تقدم المعرفة الإنسانية و بنية المجتمع الإنساني و مؤسساته هي التي جعلت من بعض هذه الإهلاسات مجرد مظهر للجنون و من بعضها الآخر وحي من قوى فوق بشرية…هذا الخيال الإبداعي في إعادة إنتاج العالم و الإنسان نفسه في صور متخيلة , في عالم فوق واقعي , عالم ينتمي للخيال , ينتج من رحم الواقع , كتجاوز له , و للعجز البشري في مواجهته , و لأزمات الوجود الإنساني نفسها بطريقة متخيلة تماما , هكذا كان الجنون , الذي أعني به هنا نقيض التفكير العقلاني , تعبيرا عن وعي عالم لا عقلاني في حقيقته , عالم ما زال عصيا على العقلنة رغم كل التطور في فهمنا العلمي لقوانينه , و لهذا نجد أن الجنون يستمر و يتواصل اليوم في التجلي و التمظهر بأشكال مختلفة , حتى , بل خاصة , في رحم البرجوازية التي ادعت أن مشروعها هو عقلنة الوعي الإنساني , فالبرجوازية تستخدم الشكل البطريركي القمعي للتخيل المنافي للعقل أو المتجاوز للعقل أي الدين بشكل مكثف , لكن ميزة البرجوازية لا تكمن هنا فقط , لنذكر مثلا محاولات الدادائية و السوريالية لتحرير المخيلة من قمع أشكال ممارسة الوعي العقلاني البرجوازي الذي كان يمثل عقل مجتمعات الانضباط و السيطرة وفق التحليل الفوكوي , المجتمعات البرجوازية في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر و أوائل العشرين , أو المنافية للعقل أو الجنون القمعية الدينية و غيرها , محاولتها لتحرير الرغبة من المحرمات , لقد مارست السوريالية تحديدا عملا هائلا في إعادة إنتاج العالم عبر مخيلة حرة منفلتة من تابوهات السائد و من ضرورات السائد , الجمعي و خاصة السلطوي….قامت البرجوازية عند إنتاجها لخطاب ما بعد الحداثة العقلانية بمحاولة لتدجين هذه المحاولات الراديكالية لتثوير وعينا و تفجير التابوهات التي تحاصره و إطلاق العنان للرغبة , للخيال , عن طريق دمجها في خطاب و ممارسات و وعي ما بعد الحداثة , أخيرا أصبحت المحاولات السوريالية الساخرة من كل ما هو مقدس و عظيم في نظر الخطابات السائدة جزءا من دعايات منتجات الاحتكارات الكبرى , اكتشفت البرجوازية أنها قادرة أيضا على كسب الربح من تسليع الخيال أو الجنون , و أصبحت تلك الصور السوريالية التي حلمت يوما بتثوير الواقع جزءا من ممارسة بلهاء للسخرية من الواقع لا معنى لها و بلا هدف بل إن هدفها الفعلي كان تسفيه الرغبة في تغيير هذا الواقع….عملت الرأسمالية على دمج هذه الرغبة في السخرية من الواقع و إعادة إنتاجه في ديمقراطيتها السلعية الاستهلاكية , التي تقوم على خلق سلع تلبي حاجات وهمية خيالية , بل على خلق عالم وهمي خيالي , تعده هي لاستهلاك البشر وفق قواعد رصينة رغم أنها تريد أن يستوعب و لو جزءا ما من طاقة الوعي المنافي للعقل , المخيال الفردي و الجمعي , لقد تبين أن هذه المحاولات الراديكالية الدادائية والسوريالية مناسبة تماما لكي تصبح أساس العالم الوهمي الذي بنته على شبكة الانترنيت و أفلام الهذيان العلمي و غيره و ما يسميه البرجوازيون بعلم أو فن التسويق الذي يعني باختصار محاولة مداعبة الجانب الخارج على التفكير المنطقي من الوعي الإنساني بقصد وحيد هو حث الناس على الاستهلاك أي خلق الربح للبرجوازية , إن تسليع الخيال أو الجنون أو الوعي المنافي أو المتجاوز للعقل هو جوهر مشروع الرأسمالية بعد الحداثي بعد أن كان تسليع العقل و العلم هو جوهر مشروعها الحداثي…لا يعني هذا أن البرجوازية قد توقفت عن استخدام الأشكال القمعية البطريركية من الجنون أي الدين , على العكس تماما , تدمج البرجوازية بين كل هذه الأشكال مجتمعة , المسلعة و المبنية على الاختلاف و الوهم الانترنيتي و تلك المبنية على الجنون البطريركي الديني القمعي للمخيال , بل وتدمج كل هذا مع الشكل السائد من الطب النفسي و من ممارساته ومؤسساته – مشافي عزل الجنون التي شرح فوكو أن مهمتها الأساسية هي إقصاء الجنون و إدانته و عزله , تماما كما فعلت مع مؤسسة السجن و العقوبة و مؤسسات الديمقراطية التمثيلية التي كانت جميعا متمحورة حول إعادة إنتاج هيمنتها , هيمنتها على الوعي أساسا و إلغاء و إدانة الوعي المختلف , الوعي المتمرد , و تبرير الواقع السائد…لكن هذه ليست هزيمة الجنون الأخيرة , إن نظام يحتاج لإقصاء الوعي بكل أشكاله بدرجة تتجاوز ما كان عليه الحال في العصور البدائية كالنظام البرجوازي كشرط لاستمراره يستطيع أن يراهن فقط على تحويل الإنسان إلى روبوت , الحلم الذي طالما راود الطغاة عبر التاريخ , إن استئصال الثورة , التمرد , الرغبة , ما زال شيئا بعيد المنال , فشلت حتى اليوم كل أشكال القمع في إنتاجه , رغم أنه يبقى حتى اليوم كحالة كمون , كاحتمال , لفضاءات لا حد لها من الحرية الإنسانية ما زال علينا استقصائها……
خاص – صفحات سورية –