صفحات مختارة

لماذا أنتج مشروع النهضة العربي كل هذا الـ…؟

وحيد عبدالمجيد
الأزمة اليمنية الآخذة في التفاقم ليست فريدة في الوضع العربي الراهن، مثلما لم تكن أزمات السودان والصومال والعراق حيث تتفكك الدولة وينهار المجتمع استثناء في مرحلة يرتد فيها العرب على أعقابهم إلى ما قبل العصر الحديث. فبقاؤهم في هذا العصر – عقلاً وتفكيراً وأنماط حياة وتفاعلات مجتمع وهياكل دولة – يقترب من أن يكون هو الاستثناء.
فما أبعده المشهد العربي الراهن عما حلم به أو تطلع إليه روَّاد مشروع النهضة العربية منذ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفارس الشدياق وغيرهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فالمشروع الذي حمل رايات التنوير والتقدم والحرية يبدو الآن غريباً في واقع مؤلم يزداد إظلاماً وتخلفاً وتسلطاً، ويتجذر فيه التعصب الديني والمذهبي بصفة خاصة.
وليس اليمن وغيره من البلاد التي يشتد فيها العنف إلا الحالات الأكثر تدهوراً في هذا المشهد الذي يعج بتدهور مختلفة أشكاله ومتباينة درجاته. كل ذلك، فيما السؤال عن عوامل فشل مشروع النهضة العربية يُعاد إنتاجه بصيغ عدة ومن نقطة أدنى من سابقتها في كل مرة. فكيف أنتج مشروعاً للتقدم كل هذا التخلف، ولماذا استهل العرب القرن الواحد والعشرين بصيحات خطاب بن لادن والظواهري وهم الذين كانوا قد بدأوا القرن السابق مع اجتهادات محمد عبده الإصلاحية بعدما استهلوا القرن التاسع عشر بإشراقات رواد النهضة والحداثة؟
السؤال ليس مدرسياً ولا يحتاج بالتالي إلى إجابة نمطية مما تعودنا على اللجوء إليه. فهو يثير قضية تتعلق بمستقبل العرب، وليس فقط بما صار أطلالاً لا يكفي أن نذرف عليها الدمع. فكثيرة هي العوامل التي تصلح تفسيراً لارتدادنا إلى عصر كنا نظن أننا غادرناه. غير أن استيعاب المعطيات الراهنة الدالة على أن مشروع النهضة العربية أنتج – تقريباً – عكس ما بشَّر به وتطلع إليه رواده يقتضي الوقوف أمام العوامل ذات الأثر التراكمي الممتد والمتواصل حتى اليوم.
وأول هذه العوامل هو ضعف القوى الاجتماعية التي كان ممكناً أن تشد عربة التاريخ العربي إلى الأمام، أو تتصدى للقوى التي أخذتها إلى الوراء، وما زالت. فالنهضة ليست مجرد أفكار ومشاريع، وإنما هي عملية اجتماعية ينتقل فيها المجتمع في مجمله من حال إلى أخرى اعتماداً على قواه الحية القادرة على فتح الطريق إلى التقدم.
وثمة عامل ثان لا يقل أهمية، وهو هشاشة المنهج النهضوي العربي الذي أخفق في تهيئة البيئة اللازمة لتدعيم دور العقل والتفكير النقدي والإقناع بأهمية العلم وتأكيد قيمة الحرية الفردية التي لا بديل منها لتجنب ذوبان الأفراد في جماعات اجتماعية وسياسية.
ويرتبط هذا العامل بثالث هو خيانة الدولة لمشروع النهضة بفعل طغيان مصالح نخبة الحكم ونزولاً على مقتضيات سلطتها الأحادية واعتمادها على الولاء بدل الكفاءة التي لا تتحقق نهضة من دون إعلاء شأنها واعتمادها معياراً وحيداً للاختيار بالتوازي مع اعتبار العقل هو الحكم في تمحيص كل أمر والمرجع الذي يقيم الحجة ولا تقام عليه. وهذا فضلاً عن نزوع الدولة العربية بأشكال ودرجات مختلفة إلى استخدام الدين لدعم شرعيتها وتورطها في تشجيع نزعات مناقضة لمقتضيات الانتقال إلى عصر الثورة الصناعية والتنوير والتقدم.
وفي موازاة هذه العوامل الثلاثة ذات الطابع الداخلي، وتفاعلاً معها، برز عاملان مهمان في مجال العلاقة مع الخارج أو الآخر الأجنبي عموماً، بدءاً بالانغماس في تاريخ الصراع بين العالمين العربي – الإسلامي والغربي منظوراً إليه في كثير من الأوساط النخبوية والجماهيرية على حد سواء من ثقب إبرة شديد الضيق. ويرتبط ذلك بأثر الاتجاه الذي برز في مواجهة هجمة الحركة الصهيونية على فلسطين، وامتدادها في المحيط العربي. فقد سعى هذا الاتجاه وراء الحشد الكمي وليس التعبئة النوعية، واعتمد خطاباً شعبوياً شعاراتياً فجاً بلا مضمون وابتعد من العقل. وكانت النتيجة هي شيوع خطاب الكراهية والبغضاء والولع بكل من يتقمص دور البطل الذي يحمل راية مواجهة الأعداء ويسيطر بها على عملية تشكيل الوعي العام فيطغى ويتجبر باسم الشعب أو الأمة ويلقى تصفيقاً وتهليلاً من جموع تسكرها نشوة الحماسة الزائفة وشعارات الانتصار الوهمي.
وبدت حكمة لنكولن عن صعوبة خداع الشعوب أبعد ما تكون عن واقع عربي هو نقيض الحال التي أنتجت تلك الحكمة القائلة إنه يمكن خداع الشعب لبعض الوقت ولكن ليس الوقت كله، ويمكن خداع بعض الناس ولكن ليس الناس جميعهم. وبدا العرب أقرب كثيراً إلى «حكمة» غوبلز النازية القائلة إن الجماهير تصدق الأكاذيب الكبيرة أكثر مما تعتقد في الأكاذيب الصغيرة.
فقد ذهبت شعوبنا التي لم يفعل مشروع النهضة أي فعل إيجابي فيها إلى أبعد مدى في الانسياق وراء الشعارات التي ظنتها حقاً واعتقدت أن كل ما يلمع ذهباً، فأثبتت خطأ فكرة جاك بيرك القائلة إن الفرد ليس عقلانياً في ذاته وإنما الجماعة البشرية هي التي تتسم بالحكمة. ولكن هذا لا يعني أن للواقع العربي صلة بفكرة غوستاف لوبون المخالفة لما ذهب إليه بيرك، وهي أن الفرد عقلاني في ذاته ولكنه يفقد العقلانية حين يكون وسط الجماهير فيتحول إلى كائن بلا رأس.
فالأرجح أن العقلانية، التي قامت عليها نهضة الأمم الأخرى بدءاً من أوروبا، لم تعرف طريقها أصلاً إلى الواقع العربي، وأن شعوبنا لم تدخل عصر الأنوار الذي بزغت فيه العقلانية واقترنت بالنزعة الفردية. ولم يعرف العرب بالتالي، إلا على سبيل الاستثناء، ذلك الامتزاج الذي حدث بين العقلانية والفردية في النهضة الأوروبية وتحرر في ظله الفرد من الارتهان الى الجماعة والانسياق وراءها والاستقلال بذاته معتمداً على عقله الذي تحرر بدوره من قيود كانت أثقلته وحبسته في ظلام قبل أن تُشرق عليه شمس التنوير وتضيء له طريق النهضة.
ومؤدى ذلك أن مشروع النهضة العربية افتقد البعد الإنساني الذي غاب بالتالي عما درجنا على اعتباره دولة حديثة. وفي ظل هذه الدولة، نشأت أجيال متوالية غير معنية بأنسنة السياسة وإنما مهتمة بالشعارات الكبيرة التي ترمز الى قضايا توصف بأنها كبرى، فانتشر في أوساطها ولع بالطغاة أكثر منه بالأحرار، وميل إلى ما يؤدي إلى الإظلام أكثر مما ينشر الأنوار.
وإذ حدث هذا كله، بإيقاع بطيء منذ عشرينات القرن الماضي، وبمعدلات أسرع منذ سبعينات القرن نفسه، وتراكمت آثاره تباعاً، فلا غرابة إذاً في مشهد التخلف العربي الراهن.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى