الشباب ومسألة التغيير
سليمان تقي الدين
اعتدنا القول إن الشباب قوة تغيير في المجتمع. ثمة من يبالغ في الرهان على مشاركة الشباب في الحياة السياسية، وثمة من يبالغ في الحذر من هذه المشاركة. الأفكار الحادة القصوية دائما عرضة للخطأ. مفهوم الشباب أصلا مفهوم متحرك غير ساكن. فئات الشباب العمرية متعددة ومواقعهم الاجتماعية مختلفة وخياراتهم الفكرية والسياسية متعددة، وانتماءاتهم الطائفية متنوعة. غالباً ما نخلط بين قصد الشباب في الحركات الطالبية، وبين الحركات الشبابية التي تتجاوز تلك المرحلة الى الانخراط في هيئات المجتمع المدني، وخصوصاً الأحزاب. الشباب قوة تغيير لأنها أكثر استجابة لظاهرة الأفكار الجديدة ورفض التقليد، ولأنها في مراحل معينة غير منتجة اقتصادياً وغير محددة المصالح في شبكة العلاقات الاجتماعية. لكن هذه المرحلة هي الأقصر التي تليها مرحلة البحث عن الانخراط في الحياة العملية ومواجهة ضغوطها وشروطها. حجم الاستقلال النسبي في خيارات الشباب شأنه شأن مسألة المثقفين إلى حد ما حين تبدأ تتكون لهذه الفئات مصالح متباينة. التحولات التي تحصل عند الشباب سريعة وغير مرتكزة على موقع اقتصادي حياتي واحد. في تجربتنا اللبنانية المعاصرة خلال أربعة عقود تحول قادة الحركة الطالبية ورموزها من موقع إلى مواقع أخرى. واحد من أسباب أزمة قوى التغيير في لبنان، واليسار في مقدمتها، أن الشباب الذي أحدث ذاك الدويّ والصخب الفكري والسياسي وهو الجمهور الأوسع، أعاد اندماجه وانخراطه في الحياة السياسية بصورة تبدو أحياناً غير متوقعة وغير مفهومة. غير صحيح بالمطلق أو غير دقيق أن هذه ظاهرة لبنانية رغم شفافية الصورة في لبنان وسرعة التقلبات في حياته السياسية. الجميع عليه أن يتذكر آثار اتفاقية كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية على المشهد الثقافي والسياسي المصري. لكن هناك نماذج أخرى عن التحولات التي حصلت بعد ثورة الجزائر وثورة اليمن، وخاصة الجنوب اليساري، وكذلك السودان. أما العراق فهناك الانكسار الأكبر الذي دمج قطاعات من المعارضة التاريخية على اختلاف ألوانها، ومنها اليسار، في المشروع الاحتلالي التدميري الأميركي. فلسطين لها ظروفها الخاصة، غير أن الشباب الفلسطيني الثوروي واليسار الفلسطيني بمروحته الواسعة داخل حركة «فتح» والحركات المنظمة خارجها دخل في مسارات إما تسووية قصوى وما تعنيه من تخل عن النضال، وإما في حركات أصولية دينية. في العالم الغربي نفسه كان ربيع أوروبا عام 1968 تاريخ القطيعة بين انتفاضة الطلاب على القيم الاجتماعية عامة وبين البحث عن مخارج ومسالك إصلاحية. وفي أميركا أنتجت بعض الظاهرات التغييرية مع التحولات الكونية التحاقا بظاهرة المحافظين الجدد وبعض الجماعات الخلاصية الدينية. أوروبا الشرقية ودول المعسكر الاشتراكي والثقافة الأكثر إنسانية أنتجت أجيالاً من الشباب أكثر انبهاراً بالمشروع الرأسمالي وقيمه الاستهلاكية.
في الهم اللبناني، في البيت اللبناني، شهدنا مرحلة من العداء للسياسة والكره للأحزاب. في الثمانينيات والتسعينيات رفض الشباب الجامعي الاهتمامات السياسية والوطنية والتغييرية. الجيل المتقدم منهم تم احتواؤه في سلطة ما بعد الطائف على نطاق واسع أي في إطار التسوية الطائفية. أحزاب التغيير نفسها إما شاركت في السلطة أو انتظرت تلك المشاركة. هناك نظام جديد يتموضع حاملاً معه الكثير من الأوهام والثقافة والاعلام فتبدلت كل الأولويات وتبددت كل مشاريع التغيير. فجأة انهارت تجربة ما بعد الطائف سياسياً واقتصادياً ووطنياً. جاء مناخ دولي جديد يعصف بكل التركيبات القائمة، خرج الشباب إلى الشوارع بمئات الآلاف ولكن داخل الأطر القائمة وتحت إدارة القوى الطائفية القادرة الشرسة.
لم نكن آنذاك في لحظة وهم من احتمالات التغيير. لكن الشباب كان مأخوذاً بالأوهام على ضفتي البلد المنقسم. ما حرك الناس كان فعلاً حلم الدولة القوية العادلة كما تصورها الفريقان، لكن شروط ذلك لم تكن متوافرة موضوعياً وذاتياً. «كان الجمل بنية والجمّال بنية أخرى». كان الجمهور برؤية لكن قوى التغيير كان في اللعبة الدولية. أعدنا إنتاج الانقسامات اللبنانية وانزلقنا في الرهانات على قوى خارجية. دخلنا في «حروب الآخرين» بإرادة حرّة واعية، أي بإرادة النخب السياسية والثقافية وأصحاب القرار. لم يعد الجمهور قادراً على أن يصنع حدثاً مستقلاً لانتفاء موقع الحدث الوطني أصلاً. قرارات دولية وحرب إسرائيلية واغتيالات ومال سياسي يقود العصبيات ويبرمجها. شباب هذا الزمن هو شباب هذه الأزمة الوطنية وضحيتها. استخدم الشباب كأي وسيلة أخرى في اللعبة السياسية وحوصرت أحلامه وطموحاته واقتيد إلى الزنزانات الطائفية والمذهبية والحظائر الزعاماتية دون أي اعتبار أخلاقي أو إنساني.
أنتجت الطبقة السياسية تسويتها وحلولها لسلطتها وخرج الشباب من ميدان الفعل بخفي حنين. ما تريده هذه الطبقة السياسية الممثلة للمصالح الاجتماعية القابضة على روح البلد هو أن تعيد إنتاج السلطة. ما تختلف حوله هو السلطة وميزانها وما تتفق عليه هو النظام وركائزه. يبدأ إنتاج السلطة داخل الأحزاب والتيارات ويمتد إلى جمهور الطوائف وينتقل إلى النظام. اذا كان الشباب لا يعرف كيف ينتظم في حزب ديموقراطي أو يحاسب زعيمه أو ينتخب قيادته أو يناقش برنامجه ويراقب مسلكيته، فلن يكون الأمر متاحاً في المدى الوطني. نحن في بيئة سياسية فيها أحزاب شمولية ودكتاتوريات لاغية للفكر وللحرية والديموقراطية والوطنية الجامعة والمصالح الاجتماعية المشروعة. البحث عن قوة التغيير تحتاج لأن نعرّف اللبنانيين بأواليات معنى حق الفرد الطبيعي وكيانه، معنى الإنسان ودوره، معنى الوطن والدولة ومعنى الحق بالاختيار انطلاقاً من المعرفة وفهم الأشياء في حقيقتها خارج التزييف بكل أشكاله.
السفير