لماذا نتخلف؟ ولمَ لا يكف تخلفنا وحده عن التقدم؟
ياسين الحاج صالح
تتطلع هذه المقالة التي لا تقول جديداً على مستوى المضمون، إلى صوغ العلاقة بين «الاستبداد» و «التخلف» في العالم العربي في قضية محكمة. تتمثل السمة الجوهرية للاستبداد المعاصر في البلدان العربية بنزوعه الثابت إلى حيازة السلطة كلها، الزمن كله، أو البقاء إلى الأبد في الحكم. وبمنطقه الذاتي يفضي هذا الرهان إلى بعث المبدأ السلالي، كما إلى اعتبار المجتمع المحكوم مصدر أخطار تتهدد الحكم، الأمر الذي يوجب مراقبة هذا المجتمع وتقييده ومنعه من الانتظام المستقل والمبادرات الطوعية. ينبغي ألا تنشأ سلطات أو حصانات مستقلة، تنافس مركز السلطة الوحيد، أو حتى تستغني عنه. ولا حتى كفاءات تستمد اعتبارها المستقل وسلطتها الاجتماعية مما تحققه من تفوق في مجالها التخصصي، أو بالخصوص تحاول توظيف هذه السلطة في الفضاء العام. وأية رؤوس قد تظهر بطريقة ما تقطف أولا بأول. تتكون على هذا النحو مجتمعات لا رؤوس لها غير رؤسائها.
لضمان كل السلطة، كل الزمن، يتعين الاستناد إلى قطاع موثوق من السكان، يتولى الرقابة والتقييد، والقمع الصريح إن لزم الأمر. وهو ما يلزم حتماً بفعل التقاء تطلب الاستقلالية المميز للاجتماع الحديث في كل مكان مع إجحاف الملكيات الجديدة المفتقرة إلى شرعية ملكية في جباية السياسة والاستقلال من رعاياها. السند الحيوي الأمتن لمشروع السلطة المؤبدة هو هذا القطاع الذي لا يكفي أن يكون ممتازاً، بل أن يدين بكل شيء للحكم المؤبد، فيتماهى به تماهياً كلياً.
على هذا النحو تشكل السلطة الأبدية مشروعاً لصنع الولاء أو التبعية، وحصر الكفاءة أو منعها من أن تكتسب وزناً عاماً واستقلالاً ذاتياً. أما محاولات المنافسة السياسية فتمزق بطرق متنوعة، إن لم يتيسر استتباعها ورشوتها. وعند الاقتضاء تسحق بفائض استباقي من العنف وظيفته إخضاع المستقبل.
تعني أولوية الولاء شيئين. أولهما تعميم علاقات المحسوبية والزبونية والتبعية الشخصية. وهنا أصل انبعاث الروابط الأهلية القائمة بطبيعة الحال على المحسوبية والولاء. وبهذه الصورة يلتقي الحكم المؤبد، السلالي بالقوة، مع العنصر المكمل له، انتعاش الروابط والعلاقات الأهلية. الشيء الثاني هو أن دوام النظام يقتضي اشتغال دينامية تقريب وصعود لأهل الولاء، وإبعاد وإزاحة غير الموالين. ولما كان من المرجح أن الأكفأ أكثر استقلالية وأدنى استعداداً لتقديم ولاء مطلق، ولما كان طلب الولاء المطلق لا يستدعي أصلا النظر في خصائص أخرى للموالين الذين تتناسب قوة تبعيتهم مع تدني كفاءتهم، بل هو يتوافق مع تحريرهم من أية قيود أخلاقية أو قانونية أو وطنية، كان من الطبيعي أن تفضي دينامية النظام إلى بقاء الأسوأ وحظوته بفرض ارتقاء أعلى. هذا الاستخلاص المنطقي تعززه ملاحظة التدني الغريب لمستوى الأجهزة الحكومية والتنفيذية في الملكيات الجديدة واتساع هجرة الأدمغة، وكذلك الملاحظة المتواترة الخاصة بأن أداء أشخاص اختيروا من خارج آلة النظام لكفاءتهم التخصصية متدن وسيِّئ. لكن تفسير ذلك ميسور. من ناحية يغلب طبع الآلة الاستتباعية المتأصل تطبّعَ النظام الواعي، فلا تثق بغير المنحدرين من صلبها ولا تكف عن تطويقهم ومنع عدواهم الاستقلالية. ومن ناحية ثانية وأهم، هناك ما يشبه حكومة خفية، يد السلطة الحقيقية والأمر والنهي والمراقبة والمتابعة والإشراف والتوجيه، ولا تعدو الحكومات والوزراء والمدراء واجهات لها. وهذه الحكومة الخفية لا تعترف بمبدأ التخصص إلا في أضيق نطاق؛ وبما هي غريزة بقاء النظام والجهة المسؤولة عن التنسيق العام فإنها لا تقبل ولو استقلالية محدودة في التنفيذ والمتابعة يقتضيها التخصص وحسن سير العمل وضمان النتائج المرغوبة. وهي تراقب، وعند الاقتضاء تعاقب، حتى أجهزة الرقابة والتقييد الظاهرة التي ينبغي ألا تشعر بالأمن هي نفسها.
يمكن اختزال ما سبق على النحو التالي: الحكم المؤبد يقتضي ولاء مطلقاً، ومنطق الولاء يشغل قانون تطور خاص، هو البقاء والارتقاء للأسوأ. وهذا طول عقود وعقود بالتعريف، لأننا نتكلم على حكم مؤبد. فهل يبقى «التخلف» سراً بعد ذلك؟ تمضي السنون والعقود وليس فقط لا يتحقق تقدم ذو قيمة على مستوى التعليم والاقتصاد والإدارة والقضاء، بل إن كل شيء يتدهور ويتداعى ويوحي بالقدم والانحلال، لأن هذا كله ليس بين أولويات الحكم المؤبد. وكذلك لأن من المفاعيل الخبيثة لقانون البقاء للأسوأ انهيار قيمة العمل. قيمته المادية كمصدر للدخل والاستقلال المادي، وقيمته المعنوية كمصدر لتأكيد الذات واغتنائها وتحققها والاعتراف بها. وبقدر ما يشغل العمل أسفل سلم القيم الاجتماعية سوف يشغل من يعيشون من عملهم حصراً أدنى الهرم الاجتماعي. من أين يأتي «التقدم» إذاً؟ وعلى مستوى الاندماج الوطني والتماسك الاجتماعي، الحصيلة أسوأ، لأن رهان التأبيد ينشّط علاقات المحسوبية وروابط الدم، هذه التي تتوافق أيضاً مع الدخول الريعية المتولدة عن امتلاك «أصول» أبرزها السلطة العمومية وما خلف الآباء. كيف لا يتقدم التخلف؟
إلى ذلك يحتاج الحكم المؤبد إلى جهاز إيديولوجي وظيفته تأكيد عصمة مركز السلطة المشخص وفرادته وتفوقه. لا ينبغي أن يصدق جميع الناس أن الأمر كذلك. المهم أن يتظاهروا أنهم يصدقون (سياسة التظاهر أو «كما لو أن» بحسب ليزا وِدِن)، أو أن لا يتجرأ أحد منهم على التشكيك في ذلك. وظيفة صناعة الكاريزما هذه ملء الفضاء الاجتماعي بسردية واحدة، فارضة على أية سردية أخرى أن تنزوي أو تستسلم لليأس، هذا «السلاح السري للطغيان» على قول لورنس ويتنر.
والرقابة المحكمة هي المفعول المشترك لكل من جهاز التقييد أو القمع العام والجهاز الإيديولوجي. يتولى الجهاز الأول منع تسمية الأشياء بأسمائها فيما يتولى الجهاز الثاني تسمية الأشياء بغير أسمائها. ومن المتوقع لمجتمع المحكومين الذي فصل بخطي نار كهذين عن تمثل واقعه وشروط حياته، أن يفقد السيطرة تماماً على هذه الشروط وأن تسيطر عليه هي وتجرفه في تياراتها. وإنما لذلك ترى الناس مقزّمين روحياً، متخلين عن أي تطلع رفيع، جل طموحهم تدبر العيش وألا يكونوا مرئيين من قبل «العين» العامة. خوفهم يقصّر الروابط بينهم ويعزلهم عن بعضهم، ليبدوا جميعاً غرباء في عين بعضهم. وغاية ما يمكن للغرباء المعزولين الخائفين المحتقرين أن يفعلوه هو أن يحتقروا بعضهم ويخافوا من بعضهم. وربما يقتلون بعضهم يوماً.
في المختصر، التخلف صناعة سياسية.
دون الصناعة هذه نحن بلدان متخلفة تصارع تخلفها لتتقدم كما يفعل كثيرون غيرنا. أما مع هذه الصناعة المتقدمة فالتخلف يتطور إلى تخليف قوي العزم.
خاص – صفحات سورية –