الفوضى والديموقراطية تتسابقان في السودان
موفق نيربية *
في نيسان المقبل هنالك انتخابات رئاسية وبرلمانية في السودان، وانتخابات خاصة بالجنوب أيضاً، وكلاهما يسبقان الاستفتاء المتفق عليه في اتفاق السلام بين الشمال والجنوب، والذي «قد» يتقرر فيه مصير وحدة شمال السودان مع جنوبه. فطريق السودان إلى «الوطنية» والدولة القوية الحديثة إذاً يمرّ في مرحلة انتقالية بالغة الأهمية، وطريقه إلى الديموقراطية يعبر ممراً ضيقاً يفصل بين هُوَّتين سحيقتين: التفتت والحروب الأهلية. وهو بذلك قد يعني لبقية العرب والأفريقيين و «العالمثالثيين» مزيداً من اليأس أو مثله من الأمل.
يقول جيمي كارتر، أحد أكبر المتحمّسين للعملية الانتخابية المذكورة في الغرب، وهو يزور السودان حالياً لبحث إجراءات الانتخابات ومراقبتها، إن «الكثيرين يشككون فيها، وليس لدينا أية ضمانات في شأنها». ويقول ذلك معظم قيادات شعب السوداني، مثل الصادق المهدي ومحمد ابراهيم نقد وحسن الترابي وسيلفا كير ومحمد عثمان الميرغني وغيرهم، مع تنظيماتهم السياسية التي قاربت الخمسين عدداً. لكن ما يـدفع بهم بـقـوة نـحو المشاركة، هو احتمال فتح ثغرة كافية للتقدم الفعلي إلى أمام من جهة، وفهمهم لحرص الرئيس البشير على تعزيـز شرعيته في مواجهة الخطر الذي يحاصره من جهة الشرعية الدولية وعناد المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية اوكامبو، من جهة أخرى.
ما يحدّ من إيجابية العملية الانتخابية اتسّاع سيطرة سلطة البشير – أجهزة الأمن – من خلال المؤتمر الشعبي الحاكم في الدولة، وعلى المجتمع. فهي بالأصل سلطة قامت على انقلاب فانشقاق، واعتمدت على تحالف يقوده البشير والترابي معاً قبل الاختلاف العاصف. كما أنها لا تستطيع ببساطة أن تتخلى عن امتيازاتها التي طالما تمتعت بها. فالركوب على جمل الدولة إغراء لا يُقاوم، مع غلبة العصا القوية وكنوز البلاد المفتوحة.
ويعتمد البشير على ذلك، وعلى الفكرة البسيطة التي تتركّز في تأييد الدولة القوية، ولو بأدوات القمع والقدرة على الإكراه، مع تشجيع الخوف من الفوضى وتفتت وحدة البلاد. وتستند هذه الفكرة أيضاً على نوازع الفرقة الموجودة منذ زمن طويل وتتجدد أو تتوالد في الزمن الحديث.
في حين تعمل القوى المعارضة على تبيان حرصها على قوة الدولة من خلال تحديثها بحكم القانون وتطوير الحريات والحقوق، وتأسيس عقد اجتماعي جديد أكثر إحكاماً من ذلك الذي قام عليه السودان في الخمسينات من القرن الماضي. تستند تلك القوى عملياً على وحدة موقفها من السلطة، فتتفق – كما يبدو – على تكتيكات سياسية وانتخابية تضمن لها ما أمكن منع البشير من الحصول على نسبة الخمسين في المئة من خلال تعدد المرشحين، لتواجهه في الدورة الثانية بمرشح إجماع وحيد. في حين ترتاح السلطة إلى تفرّق الأصوات أيضاً، لترى في رأسها المرشح الأقوى والأكثر قدرة على جمع الأصوات في النهاية.
فكان الأجدى إذاً، إيلاء فكرة التوافق على مرشح إجماع انتباهاً أكبر، وتنازل الجميع عن الطمع بالحفاظ على السلطة من جهة، أو تقويضها من جهة أخرى. والحق أن قوى قوية في المعارضة كانت على استعداد للدخول في تلك الصفقة، في حين أدارت لها السلطة أذناً صماء، وذلك إن كان حقاً مشروعاً، فليس هو الصواب عينه.
ليس استحقاق الاستفتاء على مستقبل الجنوب في عام 2011 بالشيء الهين، ولا مواجهة ملاحقة الرئيس من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ولا الخروج من مستنقع دارفور الدامي الذي يجذب انتباهاً استثنائياً من المجتمع المدني العالمي قبل ذلك الرسمي، ولا بروز نزعات قبلية وعرقية ومناطقية جديدة بين يوم وآخر. والدولة هشة في النهاية، في حين لا يأبه البعض بمصيرها، ويرون أنهم يختارون أهون الشرور حين يؤكدون أفضلية العزلة عن إكراه السلطة (أو عصاها التي تلوّح بها وتفخر) الذي لا يستند – بعد – إلى مبادئ الشرعية الحديثة.
لو لم تحصل الانتخابات لسادت الفوضى بالتأكيد، ولو نجح البشير فهنالك احتمالان للفوضى أو تحسين شروط سلامة الدولة، موقتاً على الأقل. في حين ينطبق هذان الاحتمالان أيضاً لو نجحت القوى الأخرى، لأن اتفاقها على برنامج موحد، محدد وواضح المعالم، أضعف مما تتطلبه هشاشة البلاد. لكن درب السلامة أكثر احتمالاً من الحالة الأولى، لأن الناس تؤخذ من ألسنتها، خصوصاً إذا كانت في المعارضة. ولأن الاستحقاق الجنوبي سيكون أكثر سلاسة بقليل، وكذلك مشكلة دارفور والمحكمة الدولية. الميل إلى مفهوم التعاقد سيحظى بامكانيات أكبر كذلك.
وعلى رغم تميّز الوضع السوداني عن الحالتين العراقية واليمنية من الناحية الاجتماعية السياسية وقابلية القسمة على عدد صحيح معلوم، ومن ثمّ على كسور عشرية أكثر عدداً، تتعمّق أكثر بين القبائل والطوائف والأقاليم، وتتداخل بطريقة مرعبة أحياناً؛ فليست أوضاع عربٍ آخرين إلاّ مثل هذه الحالة من حيث سماتها العامة، وتشابه سلطاتها وحلولها الفعلية القائمة على الاستبداد بالأمر، أو بحلولها النظرية الأكثر عمقاً، تلك التي تنسجم مع المعايير الحديثة من حيث الشرعية وتركيبة الدولة المدنية الحديثة.
فكما تحتاج الحالة السودانية إلى همّة فائقة مختلفة عن السائد والموروث، تتضمّن الجرأة على تجاوز العوائق والكوابح التاريخية والاجتماعية، التي عملت السياسات الخارجية العمياء على تكريسها لأكثر من نصف قرن بألوان العلم الإسرائيلي ورائحة النفط الخام، وعملت السلطات الاستبدادية على استدامتها بالاستفادة من الدين والتاريخ وروح الغلبة والقهر والفقر، تحتاج الحالة العربية إلى مثل ذلك، أو إلى استلام بداية الطريق على الأقل. في هذه الحالة تعود قوميتنا للظهور بحلة جديدة، تستند إلى وحدة الحال والمآل.
فالسودان واليمن والعراق – ولبنان بالطبع – تجارب حية تغلي بالاحتمالات بطريقة متفاوتة، وبقية «الحالات» تحتمي بأقنعة الاستقرار القائم على الأساسات البائدة، وتتأخر في مواجهة أزماتها، لتختزن عنفاً أشدّ، وآفاقاً أصعب على الاختراق. مسؤولية ذلك ستتحملها الأنظمة العربية التي تختفي وراء العابر من القضايا، وتنفخ في تلك القضايا لتأجيل الإجابة على السؤال في ميعاده وتاريخ استحقاقه، الذي يبتعد، وتتسع معه الهوة التي تفصلنا عن العالم المعاصر.
ليس للبشير وليّ عهد يورّثه، وقد أجبر بعض أقاربه على الخروج من المعركة الانتخابية، وذلك فرق لصالحه، وإن كانت فرادة الوضع السوداني هي التي أفرزتها بالأساس. فلعلّ ضارة نافعة، وربما كانت الآمال تأتي من الأرض التي ظهر فيها ابراهيم عبود وجعفر النميري وخلَفُهما هذه المرة.
* كاتب سوري
الحياة