الذكرى وحدها لا تكفي
حسام عيتاني
من عام إلى آخر، تمدد قوى 14 آذار (مارس) حالة الجمود التي تعاني منها. وإذ تستنفر القوى تلك نفسها وجمهورها وتحتشد في ساحة الشهداء في الموعد ذاته من كل شباط (فبراير)، فإنها في الوقت عينه تستنفد حركيتها وفكرتها المؤسِّسة عاماً بعد عام، بل مكوناً بعد مكون.
وفي الوقت الذي يمكن فيه إدراج انسحاب وليد جنبلاط من 14 آذار واعتذاريته إلى الجهات التي ناصبها عداء لفظياً ومادياً جسيماً، في خانة «خصوصيات» الطائفة والمنطقة اللتين يتزعم، يمكن أيضاً الحديث عن أن انفراط عقد الخصوصيات (الطائفية – الجهوية) التي أنتجت تحالف الرابع عشر من آذار والتشديد على أهمية «النزول» للمشاركة في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، هي إعلان مبطن عن أن الذكرى تلك هي جلّ ما تبقى من القاسم المشترك الذي التف حوله الملتفون غداة جريمة الاغتيال وليعودوا ويكتشفوا، واحداً بعد الآخر، «خصوصيات» أهم من العموميات التي تداعى لبنانيون كثر للذود عنها قبل خمسة أعوام.
والحال أن اغتيال رفيق الحريري وحملة التصفيات التي أعقبته، إضافة إلى إبراز الإنقسام الطائفي اللبناني والاشتغال على تصعيده ومفاقمته، قد نجحت كلها نجاحاً كاملاً في منع قيام أي حركة عابرة للطوائف تستطيع أن ترى مصلحة لبنانية عامة في مكان ما وأن تضع المصلحة تلك هدفاً لها ومشروعاً تعمل لتحقيقه. وليس افتئاتاً على أحد القول إن القوى التي انخرطت في تحالف 14 آذار تتحمل مسؤولية رئيسة في إخفاق كل المحاولات (على تواضعها) التي جرت لنقل الحركة من حيز الاصطفاف الطائفي إلى مجال التأثير الوطني العام. سهولة المراوحة عند العصبيات الأهلية والنزعات الثأرية استدرجت عصبيات ونزعات مقابلة من طينتها. فكان أن شكل النفير العصبي حبلاً طوّق عنق مُطلقيه وانتهى إلى خنقهم بنفير مقابل.
لا يرمي الكلام هذا إلى نعي قوى 14 آذار. بل إلى التشديد على أن العواطف قابلة للفتور والانطفاء وأن المراهنة على قدرة السمة المأسوية لاغتيال الحريري والجرائم التي تلته، على التحول إلى حافز للحفاظ على جمهور متعدد الانتماءات، رهان في غير موضعه. ومن دون العودة إلى انتخابات الصيف الماضي التي انقلب الفوز فيها خيبة أمل بعد القصور الواضح في استيعاب الضغوط الشديدة – الداخلية والخارجية – التي تعرض لها الفائزون، ينبغي التأكيد على أن القصور ذاك ينبثق من غياب المشروع السياسي العام لدى 14 آذار.
ولئن كان الاغتيال يختزن بعد شحنة عاطفية لا تُنكر، إلا أنه من الضروري التوضيح أن جمهور 14 آذار (أو «شعبها») لم يقرأ، على رغم تعدد الوثائق التي أصدرتها (وبعضها وصفه واضعوه «بالتاريخي»)، ورقة تحمل تصوراً محدداً لحل المعضلات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها اللبنانيون ما خلا عموميات تختفي، على ما سبقت الإشارة، أمام خصوصيات لا تحول ولا تزول.
وعند استعراض مجريات الأعوام الخمسة الماضية تبرز، بحسب أصحاب شعارات الحملة الداعية إلى المشاركة في ذكرى اغتيال الحريري، «إنجازات» أكثرها غير واقعي أو ملموس لشرائح كبيرة من اللبنانيين. الافتقار هذا إلى الواقعية لا يمكن بحال إلا أن يكشف ضآلة الجانب البرنامجي أو «المشروع» على حساب تضخم في الفضاء العاطفي «النوستالجيا». الاختلال في التوازن بين المكونين يهدد بمزيد من انفكاك جمهور تحتاج مصالحه إلى استجابات فعلية تتخطى الدعوة إلى «النزول».
الحياة