«أنا وطائفتي» أولاً!
سليمان تقي الدين
كأننا على أبواب اختيار وطن جديد وكيان ودولة. خرجت الطوائف شاهرة راياتها وتاريخها وثقافاتها وعنعناتها وكل واحدة تدّعي خصوصية فارقة. ما كنا نسميه انعزالاً طائفياً وانزواءً بين الجماعات أظهر وجهه الآخر الانفلاشي. كل الجماعات اللبنانية جاءت من خارج حدود هذا الكيان أو هي انقسمت بين أكثر من كيان واحد.
حين تلوذ الطوائف بتواريخها الفئوية تتشظى نفسياً ووجدانياً وإيمانياً، فليس من طائفة واحدة تتوازى مع هذا الكيان أو يمكن أن تختصر به. تاريخ هذا البلد الفعلي هو حصيلة العبور المتناوب للأديان والثقافات وانبساطها على اتساع الجغرافيا الثقافية وليس السياسية.
لو كانت الطوائف في لبنان مؤسسات ثقافية أو إيمانية أو دينية فقط لما وجدت واحدة منها أن هذا الكيان وهذه الدولة بنظامها يحقق لها حريتها أو حضورها الإنساني الشامل. جميع مشكلات هذا الكيان نشأت عن انشطار الطوائف وتحوّلها هنا إلى مؤسسات سياسية.
التغيير الحقيقي في لبنان وفي الطوائف وفي عصبياتها وضمورها الروحي والثقافي هو في إلغاء الطائفية السياسية قبل أي شيء آخر. ولو كان القيّمون على الطوائف في الدين والسياسة يستلهمون هذا البُعد الثقافي الإنساني لما ارتضوا لحظة واحدة هذا النظام القاتل للحرية وللروح الإنسانية.
تشد جماعة حجيجها إلى حلب أو أنطاكية وأخرى إلى مركز الخلافة الفاطمية وثالثة إلى مركز القرار الإمامي أو إلى مركز القرار الذي ورث سلطة الإفتاء. فجأة طفت على سطح الخطاب السياسي مصطلحات المشرقية والعروبة والفينيقية التي استعمرت قرطاج في شمالي أفريقيا في أسطورة «اليسار». كدنا نصاب بالذهول من هذا الانعزال الداخلي السياسي المسكون بنقيضه الثقافي الممتد في قارات الأرض حيث هناك جالية لبنانية لها كنيسة أو جامع أو خلوة.
هنا في لبنان بسبب الصراع على السلطة تمّ اغتيال النموذج والرسالة وحوار الثقافات. لا تتعايش الثقافات ولا تتحاور وفي يد كل منها سلطة إكراه وإرغام، بل هي تتنابذ فعلاً بما يدعوها إليه نظام الطائفية لكي تتغالب. هكذا يخرج ممثلو الجماعات للمطالبة بالحفاظ على «خصوصياتهم» أي سلطاتهم ولا شيء غير ذلك.
مرجع ديني وزعيم سياسي من طائفتين مختلفتين قالا إنهما يريدان الذهاب إلى سوريا وكل «طائفته معه». يريدان من سوريا أن تعترف بكيانهما الطائفي وحصرية تمثيلهما له. يتصرف أهل المقامات وكأن الطوائف مفرزة لطاعتهم، كأن هذا البلد لم يعرف «العاميات» والحركات «الجمهورية» ولا الأحزاب العقائدية وليس فيه من البشر ما لا تختصرهم طائفة ولا حتى دولة وقد صنعوا أمجاداً لبنانية في الداخل والخارج وفتوحات إنسانية أدبية وعلمية، ولو عدّدنا هؤلاء «الطفّار» في بلاد الشام ومصر والأميركتين وأوروبا وأفريقيا لكانوا أكثر من كل المقيمين تحت سلطة الإقطاع الطائفي الديني والسياسي القروسطي السلفي بالمعنى المقيت والمقزز للكلمة. وهناك مجالس ملية أخذت بتقليد الإملاء في اجتماعاتها بالمواقف على غيرها من الملل والنحل وسائر الجمهور. هي من تخاطب الدولة بلغة الوصاية بأن تفعل ولا تفعل في الشؤون الدنيوية الصرف. لكن الحرية التي وقفت طويلاً أمام حصانة رجال الدين كانت على موعد مع نماذج منهم فظهر أحدهم متلبساً افتعال الفتنة (وهي أشد من القتل) وآخر مشركاً في عبادة المال وثالث يتبع الهوى السياسي وهناك الكثير.
لكن هذا البؤس لا يقابله بعد نهوض في المجتمع لمواجهة انهيار القيم والمسلمات التي لا يقوم اجتماع سياسي من دونها أكان دولة أو قبيلة. ولا يحتاج المرء إلى كبير جهد لاستكشاف المبادئ التي تشكّل رافعة هذا النهوض، ومنها:
{ إعادة الاعتبار للعروبة كهوية ثقافية جامعة على تنوّع روافدها التاريخية وما تعنيه اليوم من توجه إلى بناء تضامن وتعاون وتكامل لقيام منظومة سياسية واقتصادية وأمنية تشكّل رافعة التقدم العربي. بل العروبة اليوم فوق هذا الاعتبار الاستراتيجي هي ضرورة راهنة لاستيعاب موجات الثقافات الفئوية والحصرية الدينية والمذهبية النابذة للعيش الواحد والمسالمة في هذا العيش. ومن بوابة العروبة نتعامل مع قضية فلسطين لفرض الحل العربي للمسألة اليهودية وللنظام الكولونيالي الذي يقتحم المنطقة اليوم. فلسطين ليست قضية جغرافيا وشعب، ولبنان ليس وحده من يتحمّل تبعاتها. وفي العروبة وإحياء مفهومها للأمن نقيم التوازن الضروري لإيجاد الحل العربي المناسب. ومن خلال العروبة نفتح آفاق الحل العراقي لمجتمع باتت تتصارع فيه قوى العرب فتسهّل عبور مشاريع التفتيت والتقسيم وتنشر عدواها في كل المنطقة.
{ إعادة الاعتبار لتراث النهضة العربية ولمكتسبات حركة التحرر العربية، ولاستيعاب قيم الإنسانية المعاصرة، من خلال التأكيد على الديموقراطية والحرية المساواة في الحقوق والواجبات والاحتكام للقواعد والمعايير التي ترعى هذه المفاهيم، والقطع مع كل أشكال الفكر والممارسة التي تعيد استيلاد عناصر الحرب الأهلية والعنف كسبيل لحل المشكلات بين أبناء الشعب الواحد. لا يضيف أي مشروع سياسي أو حراك من هنا أو هناك أي بعد إيجابي تحت سقف اللعب على التوازنات الطائفية، ولا معنى لأي اقتراح على هذا البلد لا يبدأ بشق طريق مستقل عن شبكة المصالح الطائفية.
إن البلاد بحاجة إلى مشروع وطني ديموقراطي لا التباس بين طروحاته وموقعه وممارساته لجهة استقلاله الفعلي. ولن يكون استقلال سياسي إلا باقتراح حلول للمشكلات الوطنية نابعة من جهات البلاد الأربع وجميع مكوّناتها.
{ إعادة الاعتبار للمسألة الاقتصادية الاجتماعية ليس بوصفها ملحقاً من المطالب بالإصلاحات وقائمة من مضبطة الاتهام والانتقادات وجدولاً من الشكاوى والتذمرات، ولا طبعاً رصفاً للشعارات. هناك طبقة اجتماعية قوية تخترقها في أحيان كثيرة بعض المنافسة على الامتيازات تحت شعارات التوازن الوطني أو عناصر قوة البلد المنسوبة زوراً لاقتصاد المصارف والتجارة والخدمات، وهي عناصر ضعفه كوطن ومرجعيته كسوق. هذه الطبقة كانت وما تزال تتعايش مع أسوأ أشكال النظام السياسي والإدارة. طبقة اجتماعية لم تنتسب يوماً إلى اقتصاد الأرض بل هي اعتاشت على فائض قيمة عمل كل اللبنانيين وعجزت عن منحهم الحد الأدنى من الخدمات العامة قبل أن تعطيهم الضمانات. حوّلت السياسة إلى مشاريع أعمال واستثمارات، ومعها الإعلام والثقافة والعلم، وفتكت بالوطنية اللبنانية وبالانتماء اللبناني وبالتضامن الاجتماعي وغذت تناحرات طائفية على فتات نهبها المنظم لخيرات البلد وسخّرت السلطة لدائرة منافعها.
تحوّلت السياسة درعاً واقياً لهذه المصالح، فهل تخرج سياسة التغيير من مواقع الفقر والحرمان والتهميش والتجهيل بوجه الشركاء في توطيد هذا النظام بجميع أطرافه أو لا تغيير أبداً.
السفير