جنبلاط بين دمشق و14 آذار: سياسة الفانوس والمصباح
نقولا ناصيف
الحدث الذي ينتظر الذكرى الخامسة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري يوم الأحد، هو المكان الذي سيتخذه النائب وليد جنبلاط منها: الاكتفاء بوضع زهور على الضريح، أم الانضمام إلى احتفال حلفائه السابقين؟
يبدو قاطعاً أن رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي حسم قراره نهائياً، وهو الانتقال إلى الضفة المعاكسة لقوى 14 آذار. ويكاد يكون قد قطع طريق اللاعودة إليها، وخصوصاً أنه يميّز بين 14 شباط التي باتت تقتصر على إحياء ذكرى الرئيس الراحل، وتجمّع 14 آذار الذي حمل لسنوات كل وزر العداء لسوريا وحزب الله. طريق اللاعودة هذا تعكسه ملاحظات منها:
1 – أن مصالحته المرتقبة مع سوريا أدارها حزب الله، وتحديداً أمينه العام السيد حسن نصر الله الذي قصد دمشق أكثر من مرة لشقّ الطريق إليها. بذلك يكون جنبلاط قد وضع عودته إلى علاقة التحالف مع سوريا وديعة لدى نصر الله. مذ أجرى جنبلاط أولى خطوات خروجه من قوى 14 آذار والعودة إلى سوريا، وضع الرئيس بشّار الأسد الأمر في عهدة نصر الله حصراً. لم يجرِ أي حوار ثنائي، مباشر أو بالواسطة، بين جنبلاط والقيادة السورية، وتركت دمشق لحزب الله التيقن من صدق استدارته التي تطلّبت في البداية مصالحة مع سلاح حزب الله وتسليماً بدور المقاومة، قبل تشعّب سلسلة إضافية من المصالحات.
لم تفرض دمشق شروطاً على الزعيم الدرزي، لكنها قالت لمراجعيها، لدى سؤالها عن الخطوات التي يتعيّن عليه سلوكها لبلوغ المصالحة تلك، إن جنبلاط يعرف ما تريد سوريا من غير أن تطلب. كان المقصود بذلك إثبات تخليه عن حلفائه في قوى 14 آذار، وصولاً إلى آخر أيضاحاته في الزميلة «السفير» يوم الثلاثاء: لم يطلب من الأميركيين احتلال سوريا، بل رغب في منح المعارضة السورية دوراً أكبر. تبرير أقل وطأة من عبارته لصحيفة «الواشنطن بوست». وهكذا أضحت مصالحة جنبلاط لدمشق مكمّلة لمصالحته حزب الله. إحداهما حتمية للأخرى مقدار ما يعني نقض إحداهما نقضاً للأخرى.
2 – منذ 2 آب الماضي، باستثناء رئيس الحكومة سعد الحريري، لم يلتقِ جنبلاط أياً من حلفائه السابقين، ما خلا لقاءً يتيماً مع الأمانة العامة لقوى 14 آذار بعد أسابيع على انسحابه من هذا الفريق. مع ذلك أوجدوا حججاً شتى لتبرير مغادرته إياهم، من غير التعرّض له ولا الردّ عليه، ولا الدخول في سجال معه على خياراته الجديدة، اعتقدوا – ولا يزالون – أنه في صلب هذا التجمّع ما دام في وسعهم دمج ذكرى 14 شباط بتجمّع 14 آذار، وقتَ غالى جنبلاط في توسيع شقة الشرخ الذي يفصله عنهم.
بل في واقع الحال، للمرة الأولى في تاريخ البيت الجنبلاطي، تحدّث عن خلافة يريد أن يضمن لها سلفاً الخيار الذي يحفظها ويحمي الدروز، عندما جعل ابنه تيمور وديعة أخرى في عهدة نصر الله، وعندما جعل سلامة الطائفة جزءاً لا يتجزأ من ضمان سلاح حزب الله والدفاع عنه. والحريّ بمراقبي تاريخ البيت الجنبلاطي أن لا يتوقعوا خلافة الابن للأب بسبب رهان خاسر على خيار، أو ثمن للانتقال من خيار إلى آخر. لم يمنح كمال جنبلاط في الحياة خلافة البيت لابنه وليد بعدما خسر الرهان على التفاهم مع نظام الرئيس الراحل حافظ الأسد، وأمل في الأسابيع الأخيرة التي سبقت اغتياله في دور يضطلع به الرئيس الراحل الياس سركيس لإعادة وصل ما انقطع مع دمشق، بعدما تيقّن من خدعة الرئيس ياسر عرفات له. بدوره جنبلاط الابن لا يبدو مستعجلاً الخلافة بالقدر الذي يعتقده البعض بسبب ظنون هؤلاء بأنه خسر الرهان على التفاهم مع نظام الأسد الابن. انحنى الزعيم الدرزي قبل أن يستسلم، وأعاد – أو يكاد – بناء علاقة جديدة بسوريا.
وهكذا يبدو جنبلاط أقرب إلى وضع زهور على ضريح الرئيس الراحل منه إلى المشاركة في احتفال حاشد يهاجم فيه الرئيس أمين الجميّل وسمير جعجع حزب الله وسلاحه.
3 – رغم اعتقاد دمشق وحلفائها اللبنانيين بأنّ الزعيم الدرزي اجتاز طريق اللاعودة إلى قوى 14 آذار، فإن شكوكاً لا تزال تلقي بظلال ريبة على الدور الذي يضطلع به النائب مروان حمادة في قوى 14 آذار، الذي لم يفقد الكثير من حماسته حيال انتقاده سوريا، على نحو مختلف كلياً عن مواقف يتخذها المعاونون الآخرون لجنبلاط، كالوزراء وائل أبو فاعور وأكرم شهيّب وغازي العريضي، وهم بدورهم أعضاء في الحزب التقدّمي الاشتراكي يلتزمون خيارات رئيس الحزب. وسواء عُدّت مواقف حمادة متأثرة بردّ فعله على محاولة اغتياله عام 2004 أو لكونه يمثّل – شأن ما كان عليه بين جنبلاط والحريري الأب – تقاطع استقرار علاقة الزعيم الدرزي بالحريري الابن، يكمن فحوى الشكوك في دوره (الذي يُصغَى إليه بتمعّن في أوساط المعارضة، من غير أن تكون دمشق بعيدة عنها) في الآتي:
– في موازاة تأكيد حمادة أنه لا يزال في قوى 14 آذار بصفة شخصية، فإن المعلومات المسرّبة عمّا يتحدّث به في لقاءات مغلقة داخل أفرقاء هذا الفريق، وأخصّها الثنائية، تشير إلى وفرة تبريراته الموقع الجديد لجنبلاط لدى سوريا وسعيه إلى تطبيع علاقته بها: تارة لأنه مغلوب على أمره، ولا بد من الأخذ في الاعتبار الظروف القاسية التي واجهته، وطوراً لضرورة مراعاته واقع طائفته وتجنيبها التهديد بعد أحداث 7 أيار 2008. يصل إلى مسامع المطّلعين على ملف العلاقات الجديدة بين جنبلاط وسوريا قول حمادة إنه يمثل الوجه الحقيقي لجنبلاط في هذا الفريق للتأكيد أنه لا يزال في صلب قضيته، وأنه يعكس مواقفه الفعلية. بعض هذا الكلام، يقول هؤلاء المطلعون، أسرّ به حمادة إلى سفارات كبرى معنية بالوضع اللبناني عن كثب بقوله إن الزعيم الدرزي لا يزال قلباً وقالباً مع قوى 14 آذار.
– اعتماد جنبلاط سياسة اعتاد اتباعها مذ دخل في تسوية الطائف، هي سياسة الفانوس والمصباح التي تجعله يضع إلى جانبه رعيلين من المعاونين لكل منهما دوره المستقل عن الآخر، وفي توقيت متفاوت. أبرز ممثلين معلنين لهذين الرعيلين – ويكادان يكونان المعبّرين الفعليين عن اتجاهات جنبلاط – هما حمادة والعريضي. عندما اختلف جنبلاط مع دمشق عام 2000 اضطلع العريضي بدور تطبيع العلاقة مجدّداً مع اللواء غازي كنعان. كان المصباح الذي يبهر لإعادة تنظيم علاقة الزعيم الدرزي بدمشق، فيما انكفأ حمادة كي يكتفي بدور الفانوس ذي الضوء الخافت. وبعد اغتيال الحريري الأب عام 2005 انقلبت المواقع تماماً: أصبح حمادة المصباح الباهر في علاقة جنبلاط مع المجتمع الدولي والأميركيين والفرنسيين في مواجهة دمشق واتهامها باغتيال الرئيس الراحل وسلسلة الاغتيالات التي تلتها، وتراجع العريضي إلى الظلّ كي يمسي بدوره الفانوس ذا الضوء الخافت الذي لا مكان له في ضجيج تلك المواجهة. كان من السهولة بمكان في تلك المرحلة تمييز خطاب حمادة ونبرته عن خطاب العريضي وتحفظه حيال سوريا. في الواقع عَكَسَ ما كان يقوله حمادة في الأعوام الأخيرة حملة جنبلاط على الرئيس السوري في أكثر مراحلها ضراوة. على نحو كهذا، فإن العريضي مرشح لأن يصبح المصباح الباهر في المرحلة التالية لزيارة الزعيم الدرزي سوريا ومصالحته رئيسها.
ومهما اعتُبر تميّز حمادة، دون سواه من النواب الجنبلاطيين، بحرية المبادرة والتحرّك والمواقف داخل قوى 14 آذار، لا يحمّلها المطلعون على ملف علاقات جنبلاط بدمشق أهمية يمكن أن تلقي ظلالاً من الشك على نيات جنبلاط حيال سوريا.
الاخبار