اسرائيل

عن اللغة… في التعليق على تلك الانتخابات

نهلة الشهال
تقول التعليقات – بما فيها تلك الصادرة عن جهات عربية، إعلامية أو بحثية أو حتى مناضلة – إن نتائج الانتخابات النيابية الإسرائيلية تبرز «انزلاقاً نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي». وتستكمل ذلك بالكلام عن تسيبي ليفني وحزب كديما كـ«وسط» أو كـ«يمين الوسط» في أفضل الأحوال، تمييزا عن نتانياهو وحزب ليكود، بينما يوصف أفيغدور ليبرمان بـ«المتطرف»، حيث يغْلب نعته بـ«الشعبوي»، و«المعادي للعرب» في الحيز الإعلامي الغربي، و«العنصري» في الحيز المناضل على العموم، أو العربي.
تحوير للمفردات يضيّع التعريف والمضمون. فما معنى يمين وتطرف ووسط في الوضع المخصوص هنا؟ ما هو محمولها؟ لا شك أن هناك بعداً اجتماعيا واقتصاديا داخليا لهذه التصنيفات، يتعلق بنمط التقديمات الاجتماعية، والخيارات العامة في إدارة الدولة والمجتمع الإسرائيليين. وقد يمكن هنا الوقوع على تلاوين لتبرير بعض هذه التصنيفات. لكن البرامج التي طغت على الحملة الانتخابية الإسرائيلية تمحورت كلياً على كيفية التعامل مع مختلف أوجه المسألة الفلسطينية. لذا، ليس من المجحف قصر المراجعة على هذا المقياس. ووفقه، فإن ليفني وكاديما لا يعودان وسطاً، فهي وريثة شارون، وهو حزبه. وهما من قاد الحرب العدوانية الفظيعة على غزة، وقبل ذلك من تولى السماح بتوسع المستوطنات رأسياً وأفقياً في الضفة الغربية بنسبة 60 في المئة في 2008 وحدها، بحجة ما يسمونه «نموها الطبيعي»، وهما من سرّع إجراءات تهويد القدس (يعني مصادرة بيوت الفلسطينيين وتدميرها أو منحها للمستوطنين) بهدف الحسم سلفاً، وعلى الأرض، للتفاوض بشأنها… إنهما في نهاية المطاف من وجه رصاصة الرحمة إلى «مفاوضات السلام»، رغم أنه بقي من الممكن على السيد أبو مازن أن يلتقي بأولمرت وليفني، وأن يتبادل معهما علامات الود، مما سيكون أصعب بكثير مع نتانياهو. فهذا الأخير يقر للفلسطينيين بحقوق إنسانية وليس سياسية، ويجسد ذلك بكلامه عن «تطوير واقعهم الاقتصادي»… كوسيلة لإيصالهم إلى «السلام»، بينما يعتبر «مستوطنات يهودا والسامرة وغزة تجسيداً للقيم الصهيونية»، ويتعهد مقاومة تفكيكها لأنها وفق وثيقة ليكود «حق طبيعي غير قابل للنقض للشعب اليهودي في أرض إسرائيل». كما لا يترك مجالا للشك في موقفه من «وحدة القدس كعاصمة أبدية لإسرائيل». أما ليبرمان الذي حل ثالثا متجاوزاً حزب العمل، فهو صاحب نظريات قصف السد العالي لإغراق مصر، ومؤخرا وبمناسبة غزة، الدعوة لمحاكاة هيروشيما. فإن كان هذا مجرد تطرف أو تعصب أو معاداة للعرب، فمتى يصح استخدام مفردات – مفاهيم مثل الفاشية مثلاً؟
اعتماد وصف التصويت الأخير بـ»الانزلاق إلى اليمين»، أو، وكما ورد في بعض الصحف، «رد الفعل الأمني» للناخب الإسرائيلي، يبدو وكأنه يتوسل جملاً تقريرية مهذبة جداً، تغلّب الهدوء والتحفظ والموضوعية. ولكنه يحمل بداية، ومرة أخرى، شحنة تبريرية: الإسرائيليون المساكين والخائفون يتشبثون برد الفعل الأمني! ثم هو يفوّت التحليل. فالواقع أن المجتمع الإسرائيلي قد اصطدم بمستلزمات السلام فاختار المضي قدماً بتعزيز خصائصه التكوينية، كمجتمع كولونيالي. ولكنه مجتمع كولونيالي مضاعف. فالمجتمع الإسرائيلي استيطاني بلا خلفية بديلة، كما كانت مثلاً حالة الاستيطان الفرنسي في الجزائر. ثم هو أضاف في روايته التأسيسية عن نفسه، أبعادا أسطورية، دينية وتاريخية من ناحية، وحداثية («المعجزة» الصهيونية) من ناحية أخرى، مما يجعله مغرقاً في خصائصه تلك، حتى بالمقارنة مع مجتمع الهيمنة البيضاء على جنوب إفريقيا.
ما زال النقاش مشروعاً حول مدى جدية وصدقية «أوسلو». وهو يتراوح ما بين اعتبار انه كان يمثل فرصة، ولكنها صارت مفوتة بسبب اغتيال رابين والافتقاد إلى رجل اللحظة التاريخية، وبين الميل إلى اعتبار أوسلو منذ بداياته لحظة تكتيكية، وإن مهمة، كانت تستهدف الوصول بوسائل أخرى إلى المشروع القديم لـ«لجان القرى والأحياء»،أو ما يدعو له اليوم نتانياهو من «حكم ذاتي». فإن تعذر هذا الأخير، بعد (ورغم) كل القمع والحروب والتجويع والتيئيس، وخلخلة النسيج الاجتماعي الفلسطيني بعمق، وبوسائل متعددة، أصبح الترانسفير بعد ذلك الحل الوحيد!
والترانسفير متعدد المستويات والمراحل هو الآخر. قد يبدأ من حيث هو اليوم، أي التشجيع «الطوعي» على المغادرة، ليمر بإعادة تقطيع الحدود: الجدار الذي يضم غرباً 20 في المئة إضافية إلى حدود غير معلنة، ويضم أيضاً شرقاً منطقة غور الأردن، ثم «فكرة» «مبادلة» المستوطنات في الضفة الغربية… بمنطقة أم الفحم ذات الكثافة السكانية العربية العالية، ما يمكن تسميته حقاً ضرب عصفورين بحجر واحد… لينتهي عند ليبرمان! فهذا الأخير (ولكنهم «كلهم ليبرمان» كما يقول عن حق شعار حزب ميريتس اليساري/الصهيوني) لا يموّه كلامه: الحقوق مقابل الولاء التام لدولة «يهودية، صهيونية، وديموقراطية»، مدينة الناصرة العربية «طابور خامس»، فمن لا يريد إعلان ذلك الولاء يغادر…أو يُقتل. وقد صدحت حملة الانتخابات بـ«الموت للعرب»، كما تركت وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي على جدران منازل قطاع غزة التي دخلتها كتابات فصيحة تماماً، لا يبدو أن أحداً بصدد نعتها بالإبادية أو «الجينوسيدية»، وطلب المحاسبة عليها: مجدداً ما هي الفاشية أو التوتاليتارية إن لم تكن هذه؟ سيكون موضوع فلسطينيي 1948 أساسيا من اليوم وصاعداً، وحتى قبل انجاز المراحل الأخرى، أي الضفة والقطاع، وحتى لو توخوا هم أقصى الحذر تفويتاً للفرص المعادية.
حسناً! ها قد أعلنت الانتخابات الإسرائيلية رسمياً دفن الجثة المتعفنة للعملية «السلمية». علقت السلطة على النتائج متوقعة إصابة هذه العملية بـ»الشلل». تبرر تمسكها بها بلا بدائل بالمراهنة على تدخل قوي من باراك أوباما، فيما يستمر المعلقون في استخدام مفردات محوّرة: «يتوقع إذاً سيادة حالة من الجمود». فأي «ستاتيكو» هذا (حسب التعبير الرائج)، بينما يسير حثيثاً، نشطاً، فعالاً بلا هوادة ولا توقف، مشروع إحكام السيطرة على كل فلسطين التاريخية. لا يعني ذلك أن المشروع سينجح أو سيستقر. هذه مسألة أخرى، شروطها لا تتوقف فحسب على رغبات ونوازع إسرائيل مجتمعاً وقيادة. ولكنها المسألة الأساس: كيفية التصدي للمشروع الإسرائيلي الفعلي، مشخصاً بتسمياته المطابقة للواقع.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى