صفحات سورية

المحاكم الدولية: انتصار الكوزموبوليتية؟

سعد محيو
هل يحق للبنانيين، وباقي العرب، أن يتفاءلوا حقاً بأن العدالة العالمية قد وُلدت أخيراً، وهي ستنقذهم من عسف وعنف انكشارية القرن الحادي والعشرين؟
الظواهر توحي بذلك: من بيروت ويوغسلافيا سابقاً إلى رواندا وشمال أوغندا والكونغو وجمهورية إفريقيا الوسطى حالياً. وغداً ربما في العراق وتيمور الشرقية.
في كل هذه الدول، تنبت المحاكم العالمية كالفطر لملاحقة مجرمي الحرب، ومنفذي الإبادات الجماعية، وقتلة الأطفال، ومغتصبي النساء. وفي كل محكمة من هذه المحاكم ثمة ديكتاتور يرتعد رعباً ولا تنطفئ الأنوار في غرفته ليلاً، خوفاً من أن تقوم أرواح الضحايا بتنفيذ مذكرة الاعتقال بحقه.
هذه المحاكم بدأت ترسم للمرة الأولى في التاريخ خطاً واضحاً على الرمال بين الفراعنة  الآلهة المستبدين وبين فعل الفرعنة. ثم إن هذه المحاكم هي بمثابة انتصار مجلجل للفلسفة السياسية الكوزموبوليتانية (أي العالمية المتحررة من الأحقاد القومية أو المحلية) في رؤاها للحق والعدالة، على أعدائها من أنصار الفلسفات “الواقعية”.
فالكوزموبولوتيون لطالما قالوا إن ثمة بالفعل شكلاً من أشكال الأخلاقيات العالمية التي تجد مصدرها في الضمير الإنساني كما في العناية الإلهية. ولذا كل البشر يجب أن يخضعوا للعدالة العالمية نفسها.
هذه الفلسفة العالمية، التي بدأت مع الفيلسوف الإغريقي دياجينوس الذي كان يصف نفسه بأنه “مواطن عالمي”، تنطلق من معطى يقول “إننا لا نعيش في عالم عادل، ولذا يجب العمل على بناء عدالة عالمية تستند إلى الأخلاق”.
ولكي ندرك أهمية، وخطورة، هذه الفلسفة الأخلاقية  الإنسانية يجب أن نتذكّر أن الفلسفات الأخرى التي كانت لها اليد العليا عملياً في كل التاريخ الحديث كما القديم، ترفض بشدة أي محاججة حول وجود أخلاق عالمية، وبالتالي عدالة عالمية.
فالمدرسة الواقعية (Realism)، على سبيل المثال، التي مثّلها هانس مورغينثو وكينيث فالتز وهنري كيسنجر، نفت وجود معايير أخلاقية عالمية، وقالت إن الحقيقة الوحيدة هي الدول  الأمم الساعية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الخاصة في إطار فوضى عالمية.
والمدرسة الإقليمية (particularlism) تقول أيضاً إن الأخلاق العالمية مفهوم مزيّف، لأن المعايير الأخلاقية الموضوعية تتباين بين الثقافات والمجتمعات.
ثم هناك المدرسة القومية (nationalism) التي ترى أن الأخلاق العالمية مفهوم مخطئ للغاية، لأن المعايير الأخلاقية التي تطبق على مواطني أمة ما تختلف عن تلك التي تنطبق على الأجانب.
هذه المفاهيم، المتطرفة والأنانية وأحياناً العنصرية، كانت في أساس الحروب الطاحنة التي اندلعت في العالم. وجاءت الحرب العالمية الأولى، بأكلافها المرعبة، لتدفع الكثيرين إلى إعادة النظر في مفهومي الأخلاق والعدالة، خاصة أن نظام الدول  الأمم بدأ يشهد تحولات جذرية مع نشوء العولمة الأولى منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع بروز مؤسسات عابرة للقوميات بعد الحربين الأولى والثانية.
والآن، وفي عصر العولمة الثانية، تزداد الحاجة ليس إلى محاكم عالمية وحسب، بل أيضاً حتى إلى حكومة عالمية لتنظيم السلطتين السياسية والاقتصادية اللتين تعولمتا إلى حد كبير. وإذا ما نفذت هذه العولمة بريشها من الأزمة الرأسمالية الطاحنة الحالية، ولم تتمكن الدولة  الأمة من استعادة سطوتها السابقة، فإن المسرح سيكون جاهزاً بالفعل لاستقبال الحكومة العالمية ومعها محاكمها العالمية.
بيد أن هذا حديث المستقبل، وإن القريب. أما الآن، فستبقى العدالة العالمية الوليدة مهددة.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى