صفحات سورية

صحيح.. ولكنْ غير كامل

null
حازم صاغيّة
لا يخطىء الرئيس السوريّ حين يقول لسايمون هيرش، في “نيويوركر”، إنّ النظام اللبنانيّ “ولاّدة حروب أهليّة”، وإن “تغيير” هذا النظام شرط لمبارحة تلك الحروب. مع هذا، فهو يقول نصف الحقيقة فحسب: ذاك أنّ “ولاّدة الحروب الأهليّة” هي المجتمع والروابط السابقة على الدولة والوطن (طوائف، مناطق، عشائر الخ.) حين لا يقترن وجودها بثقافة تعايش وتسامح وبتحكيم الشرعيّة الدستوريّة في ما بينها. وأغلب الظنّ أنّ هذه ليست صفة لبنانيّة فحسب، بل هي لازمت وتلازم العالم ما بعد العثمانيّ برمّته، بما في ذلك سوريّا نفسها.
والعودة الى التاريخ الحديث تدلّنا إلى أن استحالة قيام دولة ومجتمع مستقرّين في سوريّا لم تكن أقلّ منها في لبنان. لا نقول هذا من قبيل التباهي الوطنيّ الأقرب دائماً إلى زجليّات سخيفة. بل نقوله تنبيهاً إلى أنّ المشكلة أعقد كثيراً مما وصفها الرئيس السوريّ، كما أنّها أشمل كثيراً، بحيث تقضي المسؤوليّة بالتنبّه إلى أمر سوريّا تماماً كما تستدعي التنبّه إلى أمر لبنان.
فتاريخ الحركة الوطنيّة السوريّة عرف ذاك الانشقاق الذي تعرّضت له “الكتلة الوطنيّة” وشقّها إلى “حزب وطنيّ” دمشقيّ والى “حزب الشعب” الحلبيّ. ثمّ في 1940 اغتيل راديكاليّ الحركة الوطنيّة عبد الرحمن الشهبندر واتُّهم ثلاثة من كبار تلك الحركة بأنّهم وراء الجريمة ففرّوا إلى العراق. وما إن جلت الجيوش الأجنبيّة عن سوريّا في 1946، حتّى كان انقلاب حسني الزعيم في 1949 والذي لم يدم غير أربعة أشهر، تلاه انقلاب سامي الحنّاوي، ومن بعده انقلابا أديب الشيشكلي.
وبعد اغتيال القوميّين السوريّين للضابط البعثيّ عدنان المالكي، أواسط الخمسينات، أمسك الضبّاط بالسلطة من وراء واجهة حكم مدنيّ: هكذا صُفّي القوميّون السوريّون واستؤصل نفوذ حزب الشعب الحلبيّ الموالي للهاشميّين في بغداد. لكنّ حيرة سوريّا بنفسها وعجزها عن التشكّل كدولة ومجتمع مستقرّين حملاها على إلقاء ذاتها في أحضان مصر علّ الأخيرة تنقذها من تناقضاتها.
هكذا ألغت سوريا نفسها في شباط 1958 وصارت “الإقليم الشماليّ” في “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة”. لكنّ الإنقاذ لم يأت من القاهرة، فكان الانقلاب الانفصاليّ في 28 أيلول 1961. وهذا أيضاً لم يحلّ المشكلة، فكان انقلاب على الانقلاب في 28 آذار 1962 تأدّى عنه اعتقال رئيس الجمهوريّة المنتخب ناظم القدسي. وما لبث النظام الانفصاليّ برمّته أن تداعى في 8 آذار 1963، لكنّ الشركاء البعثيّين في الانقلاب انقضّوا على رفاقهم الناصريّين والمستقلّين تباعاً وراحوا يتخلّصون منهم. وفي 18 تشرين قام الضبّاط الناصريّون، وعلى رأسهم جاسم علوان، بمحاولة انقلابيّة أسفرت عن إعدام من وقع منهم في قبضة السلطة.
ثمّ في 23 شباط 1966 انقلب ضبّاط بعثيّون على القيادة القوميّة لحزبهم وأقاموا نظاماً تعرّض بدوره لعديد المحاولات الانقلابيّة، وكان أبرزها ما حاوله سليم حاطوم قبل أن يفرّ إلى الأردن. فحين نشبت حرب حزيران 1967، عاد حاطوم إلى بلده “للمشاركة في القتال”، إلاّ أن حبل المشنقة كان في انتظاره. ثمّ في 1970، انقضّ وزير الدفاع والرئيس اللاحق، حافظ الأسد على رفاقه وأحكم قبضته على البلد إلى أن توفّي في 2000 فخلفه نجله الرئيس الحاليّ.
والدرس الغنيّ الذي تعلّمه الأسد الأب يُختَصر بكلمتين: إّما أن تبقى سوريّا في ظلّ استبداد عسكريّ وديكتاتوريّ وإمّا أن تزول هي نفسها. وهذا العلاج نفسه كان بعثيّو العراق قد اهتدوا إليه في 1968، لأنّ العراق مثل سوريّا ومثل لبنان، مرشّح دوماً للتفتّت والزوال. وقد انتهت تجربة العراق بعد حكم بعثيّ استمرّ حتّى 2003 إلى ما انتهت إليه.
واقع الأمر أنّ اللبنانيّين عاجزون، لأسباب كثيرة، عن الاستفادة من هذا الدرس البليغ: إنشاء ديكتاتوريّة عسكريّة. وما الثقافات السياسيّة الكارهة للبنان غير تنويعات على عشق الاستبداد، تنويعات تأخذ على اللبنانيّين أنّهم لا يستطيعون أن يكونوا مستبدّين.
موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى