أعوام من التفاوض غير المباشر بين سورية واسرائيل
بدأ كل شيء في أحد الايام المثلجة، في السادس من كانون الثاني (يناير) 2004، عندما زار الاسد انقرة زيارة رسمية. كانت تلك أول زيارة لزعيم سوري لتركيا منذ ان حظيت سورية بالاستقلال في 1946. اثارت اهتماما كبيرا في اسرائيل بطبيعة الامر: فقد خافوا في القدس من أن مقاربة سورية ستبعد الاتراك عن اسرائيل. ورغم انه قد نشأ في قيادة الجيش الاسرائيلي ووزارة الخارجية معسكر جليل من مؤيدي سورية ـ أولا، لم يوقف احد تنفسه متوقعا ان تنبه الزيارة المسيرة السلمية النائمة بين اسرائيل وسورية. يعد الاسد الشاب شابا شبه غامض، يستعمل اداة لعب في يد النخبة السورية القديمة من مستشارين وجنرالات محافظين. كانت العيون في ديوان رئيس الحكومة آنذاك ناظرة الي الجنوب نحو قطاع غزة. كان ارييل شارون قد بدأ يعد لخطة الانفصال عنه.
من المفاجأة الشديدة أن الاسد اقترح علي رئيس حكومة تركيا رجب الطيب اردوغان ان يستغل علاقاته الجيدة باسرائيل لتجديد المسيرة السياسية بين سورية واسرائيل، التي وقفت منذ لقاء أبيه مع رئيس الولايات المتحدة بيل كلينتون في ربيع 2000. لم يكن الاسد محتاجا الي ان يطلب مرتين، فقد وعد اردوغان بتجربة قدرته. لم تثر القصة التركية تأثرا خاصا في اسرائيل. فمنذ بدء المسيرة السلمية الي جمودها، لم يدخل حافظ الاسد مع اسرائيل كلة الزواج بغير اشبين امريكي. قال الخبراء انه مما لا يقبله العقل ان يكتفي الابن بأقل من ذلك. بيّن فاروق الشرع الذي كان ما يزال آنذاك وزير الخارجية السوري ان تركيا لا تعمل في التوسط بين الدولتين ، واضاف علي الفور: نحن نشغل انفسنا فقط بمسائل في الموضوع .
ليموزين رئاسية
توجه الاتراك الي الموضوع بحذر دبلوماسي كبير. التقي سفير تركيا في تل أبيب، فريدون سمير ليئولو صديقه الدكتور الون ليئال، الذي كان المدير العام لوزارة الخارجية وكان قبل ذلك ببضع سنين رئيس المفوضية الاسرائيلية في أنقرة. طلب اليه الدبلوماسي التركي ان يفحص سرا عند رفاقه السابقين في المستوي الرفيع هل يوجد عند المستوي السياسي في القدس اهتمام بالمبادرة. طلب ليئال الي شالوم ترجمان، مستشار رئيس الحكومة السياسي، ان ينقل الرسالة الي ارييل شارون. أتي الجواب السلبي سريعا جدا. قيل لليئال ان رئيس الحكومة لا يعارض السلام مع سورية لكن، انت تعلم، لن يحب الامريكيون ذلك .
في تلك الايام، جهد رئيس ترجمان، رئيس ديوان رئيس الحكومة دوف فايسغلاس في واشنطن ليستخلص من الرئيس جورج بوش رسالة تلين معارضة اخلاء غزة. ذلك فقط ما كان ينقص شارون، ان يسمع بوش ان الاسرائيليين يفسدون له محور الشر ويحادثون سورية. البحث عن ممثل اسرائيلي ربع رسمي أتي بليئال الي مسكن الرئيس ـ الي مستشار موشيه كتساف السياسي، آفي غرانوت. وافق كتساف علي اشتراك غرانوت في المسيرة، بشرط ان يوافق رئيس الحكومة. اقترح شارون ان يستمر كتساف في شغل نفسه بمهمات بيت الرئيس المهمة.
في نهاية اذار (مارس) إثر سلسلة من الاعمال الانتحارية، أمر شارون الجيش الاسرائيلي باغتيال زعيم حماس، الشيخ احمد ياسين. بعد مضي اقل من شهر اغتيل ايضا خليفته عبدالعزيز الرنتيسي. بلغت العاصفة في العالم الاسلامي ضفاف البوسفور. لم تخفِ القيادة الاسلامية في تركيا غضبها للمس بالقيادة الدينية ـ السياسية في المناطق.
ورغم أن الاسد طلب اليهم البدء باتصالات اسرائيلية رسمية، نجح ليئال في اقناع الاتراك بتجربة قوتهم في قناة ثانوية مع اسرائيل، وبحث عن رجل اتصال يمثل الجانب السوري ازاء اسرائيل. في تلك الايام زار دمشق مواطن امريكي من اصل سوري يسمي ابراهيم سليمان، وهو علوي في السبعينيات من عمره، معروف جيدا لجميع الاسرائيليين الذين شاركوا في القناة السورية. كانت أيام سليمان الجيدة، في فترة الحكم المتصلة بابن قريته حافظ الاسد.
دعا سفير تركيا في دمشق سليمان للقاء لكي يأخذ انطباعا قريبا عن المرشح. أتي سليمان اللقاء في سيارة ليموزين من القافلة الرئاسية، وتلك دلالة بارزة علي القرب من القمة. بعد محادثة استمرت ثلاث ساعات تقريبا، ابلغ السفير انقرة انه يوجد من يتحدث معه في الجانب السوري.
كان عوزي اراد من المركز المتعدد المجالات في هرتسيليا، مطلعا علي الاتصالات مع سورية لكونه مستشار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو السياسي، واستجاب طلب ليئال الانضمام الي المبادرة. في ايلول (سبتمبر) 2004، بعد بضعة لقاءات اجراها ليئال واراد مع سفير تركيا في اسرائيل في بيته، تبين أن المسار التركي لا يتقدم، وأعلن رئيس قسم الشرق في وزارة الخارجية في أنقرة ان تركيا تتخلي عن الموضوع.
الامريكيون لا يسمحون
بعد وقت قصير من ذلك دُعي ليئال ليحاضر في مؤتمر من قبل البرلمان الاوروبي في بروكسل. بعد المحاضرة تقدم اليه دبلوماسي سويسري كان موجودا في القاعة وعرض عليه أن يلتقي نظيره نيكولاس لانغ، السفير السويسري الخاص الي الشرق الاوسط، الذي كان يوشك آنذاك ان يزور اسرائيل. تم اللقاء بعد مضي بضعة ايام في فندق في القدس. كان لانغ، الذي كان في الماضي القنصل السويسري في القدس، الروح الحي السويسري وراء مبادرة جنيف . وعندما سمع ان الاتراك تركوا الحلبة، اقترح الفحص عن امكان ان تحل سويسرا محلهم.
أصر الدبلوماسيون السويسريون، وهم أناس معروفون بدقتهم علي أن يتم كل شيء ان لم يكن بتخويلهم، فبإذن كامل علي الاقل من السلطات في القدس ودمشق. التقي ليئال المدير العام لوزارة الخارجية آنذاك، رون بروشاور، وعاد الي ترجمان ايضا للحصول علي موافقتهم ووعدهم بتقديم تقرير دائم عن سير الامور. أطلع بروشاور وزير الخارجية آنذاك سلفان شالوم علي الامر، واعلن انه لم يسمع أي معارضة للاجراء. وثار في انطباع رئيس امان في ذلك الوقت اللواء أهرون زئيفي ـ فركش بعد ذلك أن شارون ايضا علم ولم يحتج. ذكر اللواء القناة السويسرية في احدي المباحثات في ديوان رئيس الحكومة. من اين تعلم أنتَ بذلك؟ ، سأل شارون مؤكدا كلمة انتَ . أجاب فركش: لو لم أعلم لكان يجب ان تقيلني . وغير شارون الموضوع.
سافر لانغ الي دمشق للوقوف من قريب علي مكانة سليمان في النوافذ العالية. حصل الدبلوماسي السويسري ايضا علي خدمة الليموزين الرئاسية. أُخذ من سلم الطائرة الي لقاء مع الشرع والجنرال المتقاعد محمد ناصيف، الذي يتولي ملف اسرائيل في حاشية الاسد. منذ ذلك الوقت عاد خمس مرات أو ستا الي دمشق. بعد كل جولة من المحادثات حرص لانغ علي الاستيثاق من أن كل مادة في وثيقة التفاهمات التي اخذت تصاغ يقبلها متخذ القرارات في دمشق.
تحدث لانغ الي السوريين ايضا في العلاقات مع ايران. قالوا له ان النظام العلوي في سورية جزء من العالم السني، وأن المقاطعة الامريكية تدفعهم الي اذرع نظام شيعي متطرف يمد ذراعيه الي العراق ولبنان. وقالوا ان اتفاق سلام مع اسرائيل يفضي الي مصالحة الولايات المتحدة سيمكن سورية من ان ترد احتضان الدب لطهران.
قبلت الرئيسة ووزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي ـ ري، توصية لانغ وقررت ان ترعي القناة. انضم جار سليمان في واشنطن، جيف اهرونسون من صندوق واشنطن للسلام في الشرق الاوسط، الي المجموعة وضم الي العملية متبرعا امريكيا سخيا. وفي كل بضعة اشهر حط ليئال واراد في سويسرا واجتمعا اجتماعا مغلقا مع سليمان ولانغ.
متنزه بدل الحدود
بدت مواقف ليئال لأراد استخذائية جدا. وترك صافقا الباب وابقي ليئال وحده مع سليمان ومبتعثيه. ثار اراد خاصة علي الخضوع للسوريين في قضية رسم الحدود. في واقع الامر كرر ألون وديعة اسحق رابين ولم ينحرف عن مواقف رؤساء الحكومة الذين خلفوه شمعون بيرس وايهود باراك. يصر شلومو بن عامي الذي كان وزير خارجية في حكومة باراك وبرغم انكار نتنياهو واراد علي أن وثيقة 1998 التي اودعت خزانة ديوان رئيس الحكومة، تدل علي ان نتنياهو ارسل صديقه المليونير الامريكي رون لاودر الي دمشق مع موقف مشابه.
يقول اللواء احتياط اوري سجي، الذي رأس فريق باراك للمحادثات مع سورية، ان الجميع وافقوا علي الانسحاب الي خطوط الرابع من حزيران (يونيو) 67 مقابل سلام كامل ونزع سلاح تام في هضبة الجولان. وقال ان السؤال الذي يشغل الطرفين هو اين بالضبط مرت الحدود في 67 لانه لا توجد الي اليوم خريطة متفق عليها بقدر يمكن من مواجهة فرق 400 متر.
في آخر الامر، الامر الذي يتحدث فيه الجميع، لكن قليلين جدا يفعلون شيئا ما لتغييره، سيحل المشكلة؛ حالة الجو التي سببت في السنين الاخيرة تراجعا ملحوظا لمستوي بحيرة طبرية، سيمكن اسرائيل من أن تزعم انها لم تخضع لطلب السوريين غمس اقدامهم في ماء طبرية، اما السوريون فسيستطيعون الزعم انهم حصلوا من اسرائيل علي أكثر مما حصل عليه المصريون.
ترمي فكرة ان يقام في المنطقة الفاصلة علي طول بحيرة طبرية متنزه يستعمله السوريون والاسرائيليون معا، الي ارضاء سورية في مسألة السيادة، والي الابقاء مع اسرائيل علي وسيلة مراقبة لضفة البحيرة الشرقية. استقر الرأي من اجل الحفاظ علي توازن ما علي أن ينزع السلاح من مناطق في الجهة الاسرائيلية، لا السورية فقط (بنسبة 4:1 لصالح اسرائيل). الي جانب اعلام الحدود، تركت الوثيقة السويسرية للجهات الرسمية ان توافق علي الجدول الزمني للانسحاب واخلاء المستوطنات.
لكن الجهات الرسمية أصرت علي رفضها القفز الي العجلة السورية. أتي لانغ القدس في آب (اغسطس) 2006، في ذروة حرب لبنان، واستقبل الي لقاء مع يورام تربوبيتش، رئيس ديوان رئيس الحكومة الجديد ايهود اولمرت. استمع المستشار بصبر لتقرير الدبلوماسي السويسري. يزعم مصدران اطلعا علي سر الامر ان لانغ أتي معه ايضا باقتراح يتصل بالجنديين المختطفين الداد ريغف واودي غولدفاسر. وينكر ديوان رئيس الحكومة ذلك.
وعد تربوبيتش لانغ بان يتبين هل اولمرت مستعد للانحراف عن السياسة التي تقول انه لا يحل البتة اغضاب بوش، وارسال مفوض اسرائيلي رسمي لاستمرار المحادثات. طلب السوريون ان تحاول اسرائيل اقناع الامريكيين بارسال موظف رفيع المستوي. أتي الجواب بالرفض بعد بضعة ايام بالبريد الالكتروني.
نشرت القصة السويسرية في صحيفة هآرتس في منتصف كانون الثاني (يناير) 2007، تصحبها وثيقة التفاهمات. رد اولمرت باستهزاء يميزه وتهكم بليئال الذي فاوض نفسه . بل انه وبخ الوزراء عمير بيرتس، ويولي تمير ومئير شطريت الذين قالوا لوسائل الاعلام ان الحكومة يجب أن تستنفد المسيرة. التقي زئيفي فركش اولمرت واقترح عليه ان ينظر في القضية بجدية أكبر. تبين أن شارون لم يستصوب اطلاع نائبه الذي اصبح وريثه علي النشاط في القناة السورية. اقترح الضابط المتقاعد علي رئيس الحكومة ألا يستتر وراء الحجة الواهية وهي ان الامريكيين لا يسمحون .
بعد ذلك بشهر، وبالضبط بعد ثلاث سنين من زيارة الاسد لانقرة، جلس اولمرت في نفس المقعد في مكتب اردوغان. اقترح الزعيم التركي، الذي كان عالما بوضع المبادرة السويسرية الخطير، خدمات التوسط التركي مرة اخري. طلب اولمرت الي تربوبيتش البدء بتحسس حذر علي نحو لا يثير غضب الامريكيين. لم تكشف الاتصالات الهادئة التي تمت باشراف الخبير القانوني السوري رياض داودي، وهو من قدماء التفاوض مع اسرائيل عن تغييرات جوهرية في المواقف السورية.
عكيفا الدار
كاتب دائم في الصحيفة
هآرتس
القدس العربي