صفحات الناس

أول – أعلى – أكبر – أطول

null
سعاد جروس
يبدو أن لوثة أعلى وأكبر وأطول وأعرض من تلك التي تجتاح العواصم الزجاجية أصابتنا أخيراً عدواها، وأعلن عن بناء “أعلى برجين في بلاد الشام” وسط العاصمة دمشق، وكي لا يؤخذ علينا معارضة مشروع لم نعرف عنه سوى العنوان العريض وهو توقيع عقد مع محافظة دمشق (بي أو تي) على مشروع يضم أبنية مكتبية إدارية مجهزة بأحدث التقنيات وفندق خمس نجوم بإدارة عالمية مع فعالياته المتممة وشقق فندقية ومركز مؤتمرات، إضافة إلى مركز تسوق ومطاعم ومقاهٍ ومركز تسلية ودور سينما ومواقف سيارات. نقول: كل هذا يحمل أخباراً سارة، نرجو أن تستهدف فعلاً تجميل المدينة وتحسين نسيجها المعماري، رغم الشك في مدى انسجام هذه الكتلة مع محيطها، وبخاصة أنه يتم الترويج لها بصيغة الإدهاش الأجوف: “أعلى وأكبر”؛ الصيغة التي لم يجف حبر نعيها في واحدة من أهم عواصم الأبراج العربية وحتى العالمية، في دبي الغارقة بديونها، والتي رغم ذلك أقامت حفلاً مبهراً لافتتاح أعلى برج في العالم، سبقته تقارير للاستهلاك الإعلامي عن الحجم الخيالي للأموال اللازمة لتنظيف زجاجه، هذا عدا الخدمات الأخرى، كل ذلك لدحض ما يقال عن أزمة دبي المالية!! التي قيل إن سبب أزمتها الإصرار على مشاريع مبهرة ببذخها المعماري وعديمة الجدوى !! اللهم سوى الإعلان. فهل هذا ما تحتاج إليه دمشق؟ لا شك في أنها تحتاج للتنظيم ولأبنية حديثة جميلة ونظيفة، لكن وكما نظن أنها ليست بحاجة لأعلى برج، لا في بلاد الشام ولا في العالم……
قد نتفهم الأهداف الإعلانية في ترويج صيغ “التفضيل”، والتي تبدأ من الأبراج ولا تنتهي عند صحن (التبولة) و(الحمص)؛ الحصون الأخيرة لهويتنا العربية!! قد نتفهم الفرقعة الإعلانية بكل ما تنطوي عليه من آثار سلبية على توجيه الرأي العام، لكن كيف نفهم ترويج صحيفة رسمية لصيغة الإبهار تلك بالقول: “ليس في عاصمتنا أو مدننا الكبرى ولا الصغرى نقاط علام عمرانية- إنشائية يمكن الإشارة إليها كخصوصية سورية”!!
واعتبار بناء “برجين يعني أنه ليس لدينا ما يمنع جيولوجياً من إقامة الأبراج” والتساؤل “لمَ الإصرار على (السقوف الواطية) في أنظمتنا العمرانية .. بلا مبررات ومسوغات مقنعة إدارياً أو جيولوجياً، في زمن لم يبق في بعض مدننا الرئيسية ولا متر واحد لاستيعاب توسعات جديدة”!!
تقول الصحيفة الرسمية ذلك وكأن بناء “أعلى برج” من النمط المعولم يحقق الخصوصية السورية المرتجاة، ويقدم الحل الأمثل لمشكلة الاكتظاظ في مراكز المدن!! لا في تنمية مناطق الأطراف وتنظيمها، بل التروج لبناء أبراج، ولو على حساب المنظر العام لهذه المدن التي يضربها التسيب، حتى في أوسع شوارعها وأرقى أحيائها، وحسبنا نظرة الى دمشق من على سفح جبل قاسيون نهاراً للوقوف على حجم التشوه الذي حققته مدينة تتدثر بغمامة من دخان أسود، ليس له سوى رحمة الليل بظلامه، وأنوار تضيئه متحايلة على البشاعة، بمنظر خلاب يسعدنا ويعمي أبصارنا عن فوضى تجتاح شوارعنا، ولو مررنا في أي منها، وعلى سبيل المثال شارع أبي رمانة الجميل، فلن نجد واجهة بناء منسجمة مع الأخرى، واستفحل هذا مع إطلاق أيدي الشركات الجديدة لتعيد تصميم واجهات الأبنية الذي تحتلها على هواها، على مبدأ من كل واد عصا، بحيث إن كل واجهة منفردة معزولة تمثل قيمة جمالية وفنية، ولكنها إلى جوار بعضها بعضاً تتنافر بفوضوية إن دلت على شيء، فهي تدل على غياب رؤية معمارية لدى المعنيين بهندسة المدينة، إن لم نقل إنها تدل على تقصير في أداء دور مفترض في الحفاظ على انسجام الشكل العام للمدينة ما يعطيها خصوصيتها وهويتها من خلال حمايتها من التعديات والتشويه.
على العكس من ذلك تُترك مدننا وشوارعنا نهباً لأهواء الأشخاص كلٌّ يفعل ما يحلو له، فأغلب الأبنية الحجرية القديمة من أربعة طوابق، تعود للستينيات والسبعينيات في أحياء المزرعة، الطلياني، الروضة… إلخ، والتي لا يوجد فيها مصاعد كهربائية، نراها الآن وقد زود أغلبها بمصاعد خارجية زجاجية بغض النظر كالمعتاد عن انسجام شكلها مع البناء أو مع المنظر العام، وكأنما لا يمكن إيجاد حلول تراعي القيمة الفنية، هذا عدا أعمال معمارية أخرى يظهر فيها الهوس باستخدام الزجاج مثل استبدال واجهة مبنى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون الحجرية البيضاء بواجهة من الزجاج الأسود، مع أن الواجهة البيضاء كانت أكثر انسجاماً مع مبنى دار الأوبرا ومبنى مكتبة الأسد اللذين يتشاركان معها في الإطلال على ساحة الأمويين. واجهة مبنى التلفزيون البيضاء التي كانت واحدة من أكثر المعالم التي استخدمها التلفزيون للدلالة على أن البث من العاصمة دمشق، وبالأخص في المشاهد الليلية التي تظهر انعكاس الأنوار على المبنى الأبيض والى جواره السيف الأموي بألوانه الزاهية، لكنها الآن وبالأخص في المشاهد الليلية تظهر كتلة سوداء أو بناء محروقاً، إن لم نقل مشطوباً!! طبعاً لغاية الآن لا يوجد تفسير منطقي لتغيير الواجهة، كما لا يوجد تفسير منطقي لشكل التحفة المعمارية التي تشيد في ساحة العباسيين، وربما باتت تستحق الإعلان عن مسابقة للجمهور لمعرفة معنى تلك الأشكال الهندسية البيتونية المرخمة والمزججة والتي بدئ بتشغيلها على حلقات تجاوزت في عددها عدد حلقات أطول مسلسل تركي عرض على شاشاتنا العربية لغاية الآن، فكل يوم يشاهد سكان المنطقة إنارة جزء منها، فيما الجزء الآخر مازال قيد التشييد!! وذلك بعد أربع سنوات على بدء العمل استهلكت من التكاليف ما يفوق ثمن بقرة حجا.
دمشق بحاجة للتحديث والتطوير العمراني، لكنها بحاجة أكبر إلى التنظيم وفق رؤية متكاملة شاملة، لا وفق صيغة الأكبر والأعلى والأطول والأعرض، فبؤس الفوضى المعممة لا يحتمل مثل هذا البذخ الإعلاني، في مدينة كانت وعبر تاريخها أبعد ما يكون عن المظاهر والتفاخر ولنا في بيوتها المتقشفة من الخارج والباذخة من الداخل مثال يجب ألا تفوتنا معانيه ودلالاته.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى