الثقافة الديموقراطية والمواطنة
سامية نوري كربيت
الثقافة في أعمق مستوياتها هي القيم والمعتقدات والعادات التي ينظم الأفراد بموجبها حياتهم , ثم تظهر وتنعكس على حياتهم العامة بمئات الأشكال ولكي تكون الثقافة ثقافة حقا، يجب أن يكون لها تأثير في تمدين البشرية، فهي كالتربة التي تزرع فيها بذور مجتمع أنساني معافى ويتم تحقيق النواحي المتمدنة للثقافة من خلال رعاية الشخصية والفكر وتهذيب الأذواق الجمالية ولها علاقة بتصرفاتنا وأخلاقنا .
وكما هو معروف فأن الكثير من جوانب النظام الاجتماعي يعتمد على المجال الثقافي , والنظام الاجتماعي وبعض الأسس الثقافية لم تخترع لذاتها ومع أنها تعكس خيارات إنسانية الا أنها تتطور على مدى حقبة طويلة من العلاقات المتبادلة المعقدة التي لا يمكن حصرها ولا يمكن بناء أية ثقافة بنجاح بين عشية وضحاها او خلال جيل او جيلين .
واكتساب المواطن للثقافة السياسية،يعني اكتساب غالبية قيم ورموز وتوجهات الحياة السياسية العامة السائدة في بلده , وعملية الاكتساب هي عملية متواصلة تدريجية تبدأ منذ الطفولة وتستمر حتى الشيخوخة بحيث يتحدد السلوك السياسي للفرد انطلاقا من الثقافة السياسية لمجتمعه فمجتمع ديمقراطي يفترض ان تؤدي التنشئة السياسية فيه الى خلق مواطن يؤمن بحرية الرأي والعقيدة وبالتعددية السياسية وبشكل عام خلق إنسان ديمقراطي , ان كثير من الدراسات التي قام بها عدد من الباحثين والتي ارتقت الى مستوى النظريات في الثقافة السياسية توصلت الى ان الثقافة تحتوي على ثلاثة أنماط للثقافة السياسية .
فالنمط الأول هو نمط الثقافة السياسية الرعوية وهي ثقافة الثقافات المحلية القائمة على علاقات القربى والعرف والدين وهذه الثقافة هي ما قبل السياسة الخاصة بالدولة الوطنية ويجد هذا النمط انتشاره في البلدان التي تتبلور فيها مؤسسات الدولة الوطنية , بينما تلعب العلاقات العشائرية والقبلية والطائفية الدور الأساسي في تحديد الولاءات والانتماءات السياسية ،والنمط الثاني للثقافة السياسية هو ثقافة الخضوع .والنمط الثالث هو ثقافة المشاركة , وكل نمط من هذه الأنماط يتوافق مع بني سياسية خاصة به فالثقافة الرعوية ترتبط ببنية تقليدية , وثقافة الخضوع تتعلق ببنية سلطوية ممركزة , في حين تتعلق ثقافة المشاركة ببنية ديمقراطية , وإذا نظرنا الى مؤشرات الممارسة الديمقراطية التي تنشرها المراكز الدولية المتخصصة سوف يظهر لنا يشكل واضح ان تلك المؤشرات تأخذ قيما ايجابية في ظل الحكومات الديمقراطية , وقيما سلبية في ظل الحكومات الاستبدادية .
إن المواطنة الديمقراطية- كانتماء عضوي بالدولة – لا تحيا أو تنفعل دونما حاضن ديمقراطي يهبها الانتماء والاعتراف والتجذر , فالعلاقة بين المواطنة والديمقراطية علاقة توأمة لتجارب الجماعة السياسية المكونة للدولة , كون ان الديمقراطية تقوم على أساس الاعتراف بالإنسان وحقوقه الأساسية من كرامة واختيار وحرية وإرادة وعلى أساس حق المواطن في صنع القرار وهي ذاتها مقومات المواطنة الفعالة كما ان المواطنة الديمقراطية تعطي مقومات وركائز الفاعلية الوطنية والإنسانية , ان الفاعلية والإبداع لا تصدر عن مجتمع السادة والعبيد بل تصدر عن مجتمع المساواة والتكافؤ والمشاركة .
ان أفضل فهم للمواطنة هو إنجاح العلاقة بين الفرد ودولته , ويوجد في كل نظام حكم قوانين وتشريعات تحدد تعريف المواطنة لدى ذلك النظام لكن ضمن تلك المقاييس التي قد تكون عريضة في بعض الأحيان يتحدد معنى جوهر المواطنة بالنسبة للفرد وبنوعية العلاقة التي تربط الفرد بالحكومة والعكس بالعكس في الديمقراطيات الليبرالية حيث تتغذى ديمقراطية الناس العاديين في الأساس بتوق الناس للمواطنة والترابط الاجتماعي وهي رغبة في تولي نواحي الحياة السياسية التي تؤثر بشكل مباشر على تسيير المواطنين لشؤون حياتهم اليومية , وتتغذى بالإدراك التدريجي بأن حكم الذات ليس نتيجة سلسلة من الخيارات السياسية يطرحها السياسيون والبيروقراطيون ثم يقومون بإدارتها بأنفسهم بل نتاج حوار ومداولات مستمرة واتخاذ الأفراد لقرارات عليهم ان يتحملوا عواقبها بأنفسهم .
وفي المجتمعات الغربية وجدت فرضيات كثيرة لا تأخذ في الاعتبار عمليات طبعت التطور السياسي الغربي وخاصة ابتكار الدولة الذي كان يتماشى مع تحضير فكرة الطائفة السياسية وتحضير أرضية المدى السياسي كما ان البناء الوطني لم يكن يعتبر صيغة من صيغ التعبئة السياسية التي تعبر بالتلازم عن ولاء جديد وحق فردي للمشاركة في القرار السياسي , وبالتالي عن شرط من شروط جعل هذا القرار شرعيا .
هذا الخلط في المرجعيات الفردية والمذهبية الطوائفية وهذه الازدواجية في الأفكار , أفكار النظام والثورة تشكل امتدادا لتاريخ المقولة القروسيطية ومقولة الكومونة والجامعة . أنها تبلغ تمامها في الحركات الوطنية والقومية , والقوميات التي ميزت القرن التاسع عشر الأوربي التي جعلتها عنصرا من عناصر الاتصال بين الفاعلين الاجتماعيين , وهذا يعني الاندماج داخل النسق السياسي والذي هو عنصر أساسي من عناصر ثقافة المواطنة .
أما بالنسبة الى مجتمعات مسلمة في طور التحول الى دولة عصرية يكون لتعبئة المبادئ الأخلاقية الاجتماعية في خدمة الثقافة المدنية قيمة إستراتيجية وجوهرية أصلية . ان ضعف حكم القانون في هذه الدول يضيف وزنا عمليا واضحا الى إطار المبادئ الأخلاقية الوظيفية للدولة والمجتمع على السواء وبشكل مساو , فأن تحويل المسؤولية الديمقراطية الى مؤسساتية وآليات تشاركيه في أول عهدها يترك فراغا جديا في المجال العام يمكن ان تصلحه الأركان الأخلاقية المعترف بها .
ان معظم أصحاب النظريات والمفكرين يتفقون على ان كل تصور للمواطنة يجب ان يتضمن ثلاثة عناصر ضرورية هي : حكم القانون , ومواطنة متساوية في الحقوق والواجبات , وسياسات تشاركية مع مسؤولية للدولة تجاه المجال العام , وتفصل هذه العناصر بدورها فصلا عضويا بين الدولة والمجتمع وتعمل على استقلال القضاء ووسائل الأعلام , وضمان حرية الانتماء والفكر .
وليس في وسع أية ديمقراطية تهمل القيم والتعليم ان تتوقع البقاء حرة , والأسباب من الناحية الفلسفية واضحة تماما فالديمقراطية الملتزمة بمبدئي المساواة والحرية يجب ان يكون لديها مواطنين متعلمين إذا أريد لها ان تعمل بشكل فعال وما تعنيه كلمة متعلم هنا ليس مجرد معرفة مهارات أساسية بل أشخاص ينمي التعليم عقولهم والهدف من التعليم العقلي هو تأهيل الرجال والنساء من اجل عيش حياة من الحرية المنضبطة .
ان القيم تكتسب بالدراسة والاقتداء والاهم من ذلك بالممارسة حيث ان الدراسة تتطلب الالتزام بقواعد التعلم ويكون الرجال والنساء قدوة ينقلون قيمهم للصغار , والفضيلة تكتسب عن طريق التصرف بطريقة فاضلة وقيم الفضائل المدنية هي معارف واضحة يتقنها الإنسان حتى تصبح عادة حول حقوق ومسؤوليات المواطنة والفرص والالتزامات التي تفرضها حكومة دستورية , ومعرفة ان حرية المرء تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين ومعرفة ان الحقوق يكسبها من يستحقها ولا بد من حمايتها إذا أريد لها البقاء .
وهناك قواعد تجسد بحد ذاتها قيم المجتمع الديمقراطي , تشمل الأمانة والإخلاص والدقة والإنصاف والتسامح مع المختلف والمرونة مع الآخرين كما أنها تعني تلبية الحد الأدنى من معايير التمدن والسلوك الجيد وهذا يعني أكثر من مجرد إطاعة القوانين , انه التكيف مع معايير متفق عليها للسلوك وعلى مستوى الدولة كما يعني ذلك الالتزام الكامل والصريح بمتطلبات المواطنة بدءا من الأمانة في دفع الضرائب الى المشاركة في المواطنة وانتهاءا بالتضحية الكبرى للخير العام في أوقات الخطر المميت .
وثمة رابط كبير بين التعليم والديمقراطية ،فالهدف المعلن للتربية الحديثة هو تحرير الناس من الأحكام المسبقة والأشكال التقليدية للسلطة حيث ان الناس المثقفين لا يخضعون للسلطة خضوعا أعمى بل أنهم يتعلمون كيف يفكرون من تلقاء أنفسهم ويستطيعون التمييز بين مصالحهم الخاصة ومصالح الآخرين كما ان التعليم يجعل الناس يكتسبون معنى معينا للكرامة يودون ان يحترمهم مواطنوهم وكذلك الدولة فمن الممكن لإقطاعي في احد المجتمعات الفلاحية ان يجند الفلاحين لقتل الآخرين والاستئثار بأراضيهم فالمأجورون هنا يعملون ليس بدافع مصلحتهم الذاتية وإنما لأنهم اعتادوا الخضوع للسلطة بينما في البلدان المتطورة يمكن اجتذاب أشخاص كثيرين للمشاركة بعدد كبير من القضايا , كمثل نظام لتخفيف الوزن او مباراة في الركض الماراثونية او للتطوع في الأعمال الخيرية او جمع مساعدات للمحتاجين سواء في دولهم او في دول أخرى .
إن فكرة بناء مجتمع وطني قائم على الحب لا يمكن ان تتحقق بدون العمل على نشر الثقافة الديمقراطية والتي تقود نحو المواطنة العملية التي تركز على تطوير قدرات الناس للعمل معا من خلال حل المشاكل المجتمعية مدنيا وتحيي أحساسا لدى العامة بالحياة المدنية ودورها المنتظر في دفع المسؤولية العامة والسياسات التشاركية الى الأمام.
الحوار المتمدن