الماركسية: إعادة إنتاج أم عبور ليبرالي
عمار ديوب
شكل انهيار الاتحاد السوفييتي، صدمةً كبيرة في التيارات الشيوعيّة العربية، وظهر على إثره اتجاه فكري يدعو لإعادة إنتاج الماركسية من جديد، وضرورة اكتشاف الماركسيات التي تمّ التعتيم عليها وأنّ هناك ماركسيات أخرى غير الستالينية، ،مثل البوخارينية والتروتسكية والبليخانوفية، وهناك أتباع برنشتين، وكذلك غرامشي وماوتسي يونغ، وبالتالي هناك تعدّد وتمايز بين ماركسيات عالمية. وهذا صحيح، ونحن لم نأخذ سوى بالنموذج الأسوأ، طبعاً هذا الاتجاه كان يتكئ على ضرورة الإقلاع بالماركسية وإنتاج أحزاب ثورية، ولكن النقاش أفضى لاحقاً إلى تأثيم وتكفير التجربة الاشتراكية، والاستمرار في ذلك النقد التكفيري، والانتقال إلى تعظيم وتقديس الليبرالية، وكأنّها الوجه النقيض لكل ما هو سوفييتي، والبعض يقول لكل ما هو ماركسي، وآخرين يأثمون حتى الثورة الفرنسية وقيم الحداثة بكليتها؛ لما بينها وبين الماركسية من صلة رحم، تجعل الأولى أم للثانية بامتياز. والسؤال: لم تُنتج ماركسية ثورية، وتمّ التحوّل نحوالليبرالية؟ ربما يكون السبب في أنّ الماركسية كمنهجية وكنظرية معرفة تتطلب إيجاد تركيبات فكرية عميقة، وهو ما لا يتوفر للعقل الذي أدمن التكفير والعقل الماركسي السائد لم يتجاوز ذلك، وهو ما تمثله الاشتراكية المتحققة. وباعتبار الماركسية كما أشرنا، فكان لا بد من العودة إليها دراسةً وبحثاً ومن ثم إعمال العقل في مآلات الواقع السوفييتي في ضوئها، وبذلك تتحوّل الماركسية- وهنا نشير لكل انتاجات المفكرين الماركسيين في إطار المنهج- إلى منهجية، وليس إلى مقياس، ينطلق من تعاليم نصيّة تشبه التعاليم المقدسة وسرير بريست، حيث بفشل التجربة نعلن فشل المقياس. أريد القول أن الماركسية لم تفهم بكونها في الأصل منهجية، وعوملت وكأنّها موقف سياسي، وبالتالي لم تقدم الاشتراكية المتحققة إضافات هامة إلى الفكر الماركسي بقدر ما شكلت إعاقةً مانعةً للتطور. كأن يقال أنّها هي السبب في تعميم مصطلح الديكتاتورية البروليتارية، أو أنّها تتساوى بالتأميم أو أنها تعمل من أجل نظام الملكية العامة للدولة، وهي لا تسمح للرأي الآخر بالوجود، وغير ذلك، وهذا كله غير صحيح، حيث أن هذه المواضيع تدخل في إطار البرامج التي تتناسب مع مرحلة زمنية معينة وستتغير بالتأكيد مع ظهور مرحلة أخرى. أي أن ما هو هام في الماركسية هو كونها أولاً ومجدّداً منهجية في التحليل، واستنتاجاتها المعرفية عن طبيعة النظام الرأسمالي كنظام استقطابي وأنّه ينتج القيمة الزائدة ويخفي الديكتاتورية الاقتصادية الرأسمالية للملكية الخاصة بنظام سياسي يدعي الديمقراطية لكافة المواطنين، وهناك الكثير من الأفكار الصحيحة فيها والتي لم تُخطّئ، و لا يتم التركيز عليها، ويتم بالمقابل التركيز على قيم العلمانية والديمقراطية والمواطنة، وكأنّ الماركسية لا تتضمنها، وتمتدح الرأسمالية العالمية بأنّها لا تزال أمينة لهذه القيّم، ولو كانت بالفعل أمينة لهذه القيم، ماذا سنقول عن استعمارها القديم للعالم، وما نقول عن التدخل الأمريكي في كل أنحاء العالم، وماذا نقول عن ما يحدث من أزمات مالية واقتصادية وإفقار لأغلبية شعوب العالم، وهل هي مجرد صدفة أو أنها شعوب بلهاء لا تقدر التقدم ولا تعرف العمل. هذا لا يعني بحال من الأحوال مساواة دولنا بالغرب، وبالفعل الديمقراطية قد تكون وجزئياً حققت مصالح الشعوب الأوربية ولكنها بالتأكيد لم تكن لصالح شعوب العالم ولا سيما المتخلف منها وقد أضرت به كثيراً عبر الاستعمار ولاحقاً التبعية، وعملت على التحالف مع أنظمة توتاليتارية وعدم مطالبتها باحترام حقوق شعبها في المجالات كافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعقدت مع هذه الأنظمة اتفاقيات تؤبدها كأنظمة مسيطرة وتسجن الشعوب بوضعية الإذلال. ونضيف هنا، ليس من الصحيح أن الليبرالية وأقصد النظام الرأسمالي العالمي هو نظام لصالح البشرية كما يقول دعاة اللبرلة من الماركسيين السابقين، بل هو نظام ضد مصالح البشرية وضد البيئة وربما هو السبب الحقيقي للدمار الذي يحدث في البيئة، وفي هذا ساهم الاتحاد السوفيتي والصين كذلك والدول المتخلفة أيضاً. وكي لا نخرج عن موضوعنا، فإنّ الماركسية بعد سقوط النموذج السوفييتي لم يعاد إنتاجها ثورياً وكانت الفكرة بمثابة عبور وبدءاً من روسيا نحو القيم الليبرالية، وهذا ما تحقّق واقعياً، والدعاة الليبراليين يستمرون في دعواهم تلك دون تلكؤ، ولو تم الاكتفاء بالإشادة بقيم الليبرالية من ديمقراطية وعلمانية ومواطنة وغير ذلك، لكانت الفكرة سليمة تماماً؛ فهذه القيم يجب النضال من أجلها، والماركسية الأوربية لم تتخلّ عنها أبداً، ولذلك قلنا الماركسية ماركسيات، دون أية تفاضل بينها. وأمّا حقيقة النظام الرأسمالي ولا سيما بعد الثورة الفرنسية فقد أصبح حريصاً على البحث عن كيفية التخلص من هذه القيم بالتحديد، وهذا ما يظهر لدى الليبراليين العرب حين يؤيدون العولمة دون شروط والأمركة بترحاب يتكرر في أي تحليل يتناول النظام العربي وأفاق المجتمعات العربية وهم بذلك يستبدلون الاستبداد بالاستعمار، وبالنسبة للنظام الرأسمالي ولكثير من الليبراليين فإنهم لا يسعون نحو تأصيل قيم الليبرالية بقدر ما يسعون نحو السلطة، وهذا ما يظهر في أن التحوّل الليبرالي العربي يتم بأنظمة استبدادية متحالفة مع الطائفية السياسية ومسيسة للدين، وليس بأنظمة علمانية مواطنية، وعدم العمل بالقيم الليبرالية متأتٍ من كونها تعد إرثاً يشجع على الثورة والتغيير؛ فكما غيّرت البرجوازية الإقطاع فيمكن للعمال والمتحالفين معهم أن يغيّروا النظام البرجوازي، ولذلك كانت الفئات العمالية ولاحقاً الأحزاب الشيوعية في أوربا هي من يطالب بالتحوّل نحو قيم الليبرالية والعدالة الاجتماعية، وقد توقعنت تلك القيم من خلال نضالات تلك الفئات والأحزاب، والتي كان على البرجوازية التسليم بها، وإلّا فإنّ الثورات العمالية اليسارية قد تتطوّر نحو إسقاط النظام الرأسمالي كما حدث في روسيا وكما كانت تؤشر لذلك قوة الأحزاب الشيوعية في العالم، وهو ما عمّق النظام الرأسمالي ديموقراطياً و بصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وصعود النظام السوفيتي كنظام منافس داخل أوربا وعالمياً. وبالتالي لا يجوز بأي حال من الأحوال نسبة ما حدث في أوربا من تطور ليس في مجال الديمقراطية فقط بل وليبرالياً أيضاً إلى النظام الرأسمالي أو إلى الليبرالية السياسية فقط، بل وإلى ما قامت به الأحزاب الشيوعية الأوربية والنقابات العمالية والحركات الطلابية من نضالات استهدفت تعزيز الديموقراطية والقيم الليبرالية والعدالة الاجتماعية. إذن لا مشكلة في العودة إلى القيم الليبرالية ولكن في سياق تنظير ماركسي يعيد إنتاج الماركسية عربياً وعالمياً وبما يؤدي إلى ماركسية ثورية مميزة وفق شرطنا العربي المميّز كونيّاً، وهو ما على الباحثين الماركسيين إعادة صياغته، وبالتالي هناك قضايا عدّة لا بد من النقاش المعمق فيه على المستوى الماركسي، وهي: ما هي الماركسية؟ فهل هي منهجية فلسفية؟ أم نظرية معرفة؟ أم حزب سياسي؟ أم أيديولوجيا؟ وإذا كانت كل كذلك كيف سنعمل على تعلمها والاستفادة منها منهجياً ولاحقاً ما هي طرق تمييزها عربياً؟ وهل سيتم ذلك عبر التنسيق بين الباحثيين الماركسيين وإقامة ورش فكرية ماركسية؟ أم عبر جهود شخصية، وكيف سيتم تفعيل هذه الجهود، وهل سيكون بإشراف الأحزاب الشيوعية القائمة أم سيتم بعيداً عنها، وكيف سيدعم هذا العمل مالياً، ولاحقاً ما هي طرق النشر الإعلامي، فهل سيُعتمد على طباعة الكتب أم عبر المواقع الالكترونية أم عبر الإعلام الحزبي، وإذا ما حدث تناقض بين الأحزاب والمثقفين، هل ستتحمل الأحزاب الماركسية، الاختلاف- بخلاف ما كان يجري- وتكون أمينة لفكر المثقفين وتنشره رغم الاختلاف، وتتجاوز علاقتها الخاطئة بالمثقفين، ويصبح لهم استقلالية كاملة في نشاطهم المعرفي!؟ ما ذكرته هنا، يعني أن على الماركسية الجديدة، أن تتضمّن كل ما هو ثوري ليس في تاريخ أوربا بل وفي العالم، وأن تمايز نفسها محلياً كي تستطيع تغيير واقعها الذي هو بدوره واقع مميّز في إطار عالم كوني، وبالتالي ما يطرح عربيّاً قد لا يطرح إفريقياً، وبالمثل ما هو ضروري لسوريا ربما ليس ذاته بالنسبة للمغرب مثلاً، ولذلك يجب تفادي البحث عن نموذج قديم آخر بديل عن النموذج السوفييتي، فنحن لا نستبدل تروتسكي بلينين، ولا ماوتسي تونغ بستالين، وعندها سنكون كمن ينقل البندقية من كتف إلى كتف، ومن إيمان إلى إيمان، فهل نعمل من أجل إعادة إنتاج ماركسية ثورية بالفعل، بعيداً عن العبور الليبرالي؟
يقع ولا شك على الماركسية العربية، مهمات كبيرة؛ فالبرجوازية العربية على اختلاف أنظمتها السياسية؛ التي أصبحت تتماثل مع بعضها، لم تعد تملك أي مشروع حداثي، وقد تحوّلت إلى مجرد أنظمة سياسية بواجهات طائفية أو وكيلة للنظام الامبريالي العولمي، الذي يستوى مع العولمة النيوليبرالية، التي أخفقت في كل مكان إلا أنها لا تزال تحرز انتصارات مذهلة في عالمنا العربي! عدا عن أن هناك تراجع عام على كافة المستويات، وتفكك للمجتمعات وبروز للهويات الدينية وليس الطائفية فقط وهناك تصادم شبه كلي بين الأغلبيات القومية والأقليات القومية، وبالتالي، لا يمكن للماركسية اختصار نفسها بالمطالب السياسية وليس بإمكانها التحوّل إلى أحزاب مطلبية أو أحزاب ليبرالية بدون علمانية أو عدالة اجتماعية، وعليها أن تكون أحزاب ثورية من جديد، وأن تعيد تأهيل كوادرها وأن تصبح ماركسية ثورية بالفعل، وإغلاق الستار الكاذب التي افتتحته البيروسترويكا عن التغيير والآخر، وأن تتبنى التغيير الثوري متضمنا بالضرورة كل قيم الحداثة الأوربية ولكل ما يخدم البشرية والطبيعة وتطورهما المطرد.