إعادة إحياء مفاوضات السلام السورية – الإسرائيلية
عمر كوش
يبدو أن المساعي التركية، الممثلة بجهود رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، قد نجحت في إعادة جمع الطرفين السوري والإسرائيلي حول طاولة التفاوض، وجاء الإعلان المتزامن في كل من القدس وأنقرة ودمشق يوم 21 مايو (أيار) لينقل المفاوضات من حيّز السرّ إلى العلن، ويؤكد إعادة إحيائها بعد أن توقفت في شهر آذار (مارس) 2000 في أعقاب لقاء جينف الشهير بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس الأميركي بيل كلينتون. واللافت في الأمر أن إعلان بدء استئناف المفاوضات السورية- الإسرائيلية تزامن مع توقيع اتفاق الدوحة بين الأطراف اللبنانية، الذي يشكل بداية مشجعة لإنهاء الأزمة اللبنانية، وتزامن كذلك مع إعلان قبول إسرائيل بمساعي التهدئة المصرية ما بين حركة حماس والكيان الصهيوني.
والمتابع للمسار التفاوضي السوري– الإسرائيلي يجد أنه امتاز عن سواه من المسارات العربية– الإسرائيلية الأخرى بوصفه صاحب أكبر عدد من الفرص الضائعة أو المضيّعة، والتأريخ لهذه المفاوضات وفق هذه الصيغة أغرى الكثير من الباحثين والمحللين، ربما لأنه لم يصل إلى إنجاز يُذكر، فصار يُعرّف بالفرص أكثر من تعريفه بالنتائج أو الإنجازات.
والواقع هو أن المفاوضات السورية- الإسرائيلية منذ انطلاقها مع مؤتمر مدريد 1991 وحتى توقفها نهائياً لم تكن مقصودة بذاتها، أي أنه إذا كان التفاوض -بمعناه المدرسي- يعني اتباع المصلحة المشتركة والتركيز على ما يحقق مصالح الطرفين للعمل معاً، وعلى ذلك فعليهما أن يتوصلا إلى حلول وسط في قضايا التفاوض المتعثرة، فإن التفاوض بمعناه «الشرق أوسطي» يتحدد بالمحصلة الصفرية، فما يكسبه طرف سيخسره الطرف الآخر حتماً والعكس صحيح، وعلى ضوء ذلك جرت المفاوضات السورية– الإسرائيلية على مدى سنواتها العشر الضائعة.
وارتكزت الإستراتيجية السورية في التفاوض بشكل رئيسي إلى الحصول على التزام أو تعهد إسرائيلي بالانسحاب الكامل من الجولان حتى خط الرابع من حزيران (يونيو)، وأمام هذا الهدف النهائي الاستراتيجي يمكن قراءة جميع التكتيكات السورية أو التنازلات السورية في مجالات الأمن والمياه والتطبيع، فالأمن على سبيل المثال عليه أن يكون متكافئاً وتبادلياً لدى الطرفين لكن، شرط ألا يمس السيادة السورية في الجولان، وهو مبرر الرفض السوري الدائم لوجود محطات إنذار مبكر إسرائيلية في الجولان بوصفها أدوات تشعر السوريين بانتقاص سيادتهم على هضبة الجولان.
وجرت عملية إعادة بناء السياسة الخارجية السورية، خلال العقود الماضية، وفق معطيات الصراع مع «الكيان الصهيوني» حرباً أو سلاماً، حيث تمّ ترتيب الأولويات السورية وفق هذه السياسة، فالتحالفات الدولية يتم الدخول فيها أو الحوار معها بناءً على قربها أو بعدها من هذا «العدو»، كالعلاقة مع الاتحاد السوفييتي سابقاً، والتوازنات والمحاور الإقليمية يجري تنضيدها وتأليفها لمواجهة هذا «العدو التاريخي»، وكذلك تشكيل جبهة الصمود والتصدي عقب توقيع مصر اتفاقيات كامب ديفيد. لذلك يصح القول إن السياسة الخارجية السورية تتحدد وفق الموقف من «إسرائيل» وموقف العالم منها. إنها سياسة تقوم على معادلة بسيطة تتبع المثل القائل: «عدو عدوي صديقي»، أما «صديق عدوي» فعلينا أن نحدد أولاً درجة صداقته ونسبتها، ثم نحدد بالتالي درجة صداقتنا له ونسبتها. وقد انسحب ذلك التقييم على علاقة سورية مع الدول العربية والغربية أيضاً.
وبالرغم من المواقف المتبدلة والمتحولة للولايات المتحدة الأميركية من سورية، فإن الأخيرة سعت على الدوام إلى إنشاء علاقة جيدة ومتوازنة معها، مقابل سعي الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأميركية إلى استجلاب سورية إلى معسكر السلام، الذي تحول إلى معسكر «الاعتدال»، والذي من شأنه – إن تمّ – أن يرسم خارطة جديدة للشرق الأوسط.
وقد حمّل العديد من الباحثين والمسؤولين الإسرائيليين جزافاً سورية مسؤولية إضاعة فرصة السلام، أو عدم الاكتراث بالسلام وسوى ذلك من توزيع الاتهامات والمسؤوليات على الطرف الآخر الصامت تماماً، الذي لم يقدم روايته التي تنفض الرواية الأخرى أو تخالفها في وجهة النظر على الأقل. واشتهر عقد التسعينيات من القرن العشرين المنصرم بـ»العقد الضائع» في تاريخ سورية، والذي شكّل فترة تاريخية حاسمة ومهمة من فترة حكمها، وميزت مفاوضاته المراوغة الإسرائيلية في «شبيردزتاون» التي أحبطت الفرصة الحقيقية للسلام عندما لاحت في ذلك العقد، وكان السبب هو عدم استعداد إيهود باراك لدفع الثمن كاملاً، وهو الانسحاب حتى خط الرابع من حزيران (يونيو)، وبشكل يجعل سورية متشاطئة ببحيرة طبرية، ولا تصطاد فيها بأريحية.
وقد أبدت القيادة السورية في ذلك الوقت مرونةً كبيرةً بغية التوصل إلى اتفاقٍ مع إسرائيل، الهدف منها كان حل كافة قضايا الخلاف العالقة بشكلٍ متوازنٍ ومرضٍ، في ظل ما عُرف بـ«وديعة رابين»، وكذلك التعهد الأميركي بانسحاب إسرائيل حتى آخر متر من الجولان..
واليوم، قد تستأنف المفاوضات السورية– الإسرائيلية من جديد، خصوصاً وأن رجب طيب أردوغان قد تحدث علناً عن استعداد الحكومة الإسرائيلية للانسحاب من مرتفعات الجولان المحتلة، بعد أن رفضت طويلاً التنازل عن شبر منها، واعتبرتها جزءاً من إسرائيل الكبرى. لكن من المهم ألا توظف المفاوضات في اللعبة الداخلية الإسرائيلية، خصوصاً وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي يُلاحق قضائياً بتهم فساد، ويعاني ائتلافه الحكومي من الضعف، وبالتالي سيسعى إلى توظيف ورقة الدخول في مفاوضات مع سورية في الشأن الداخلي الإسرائيلي. والخشية هو أن تقدم الحكومة الإسرائيلية على المفاوضات مع أجل المفاوضات، واستهلاك الوقت، وليس من أجل الوصول إلى سلام عادل وشامل.
ولا ننسى أن الأوساط السياسية الإسرائيلية تتحدث عن «السلام المشروط» مع سورية، وعن أن الدخول معها في مفاوضات سلام سيفضي إلى فك ارتباطها وتحالفها مع إيران وحزب الله وحركة حماس وخروجها من «محور الشر».. وهذا يتفق تماماً مع المسعى الإستراتيجي الأميركي.
كاتب من سورية