منال الشيخ: ليس مطلوباً من الشعر أن يحلّ القضايا الكبرى
بيروت – حسين بن حمزة: “أنا منال الشيخ/ ابنة مهاجرٍ آوى قطّاع الطرق في بيتنا الطيني المسقوف/ ولم يطعمهم ما تبقى من أحلامنا على مائدة احتضار/ ابنةُ امرأةٍ أحرقت آخر رغيفٍ كنا سنوكل إليه أيامنا المعدودة/ واتكأت على رهانٍ عتيق/ ابنةُ أسلافٍ، قاطعي الرقاب وسارقي ألقاب البطولة/ معتمري برق السماء/ دون أن تطالهم لفحةُ موتٍ واحدة/ تطول أعمارهم بعددِ ما ينتشرُ من أئمةٍ/ فوق جسر الخلود”. بهذه اللغة المتحركة على طبقات معجمية وتخييلية وحياتية عديدة، تعرِّف الشاعرة العراقية منال الشيخ عن نفسها. ثمة دلالات كثيرة في المقطع السابق المستلّ من ديوانها الأخير “بالنقطة الحمراء تحت عينه اليسرى”. القارئ ينتبه إلى خصوبة وثراء الجملة الشعرية، واستفادتها من طاقات النثر والشعر معاً. لا تكترث منال الشيخ بتسرُّب السرد والحوار إلى طيَّات القصيدة. ليس لديها مشكلة في هوية أو جنسية النص الذي تُنجزه. بالنسبة إليها، لا جنسية للشعر.
بدأت منال الشيخ بنشر الشعر. أصدرت مجموعة سردية بعنوان “انحراف التوابيت” عام 1996، وانتظرت اثني عشر عاماً لتُصدر “أسفار العزلة” عام 2008. وها هي تصدر مجموعتها الثالثة “بالنقطة الحمراء تحت عينه اليسرى”.
“الرأي” سألت الشاعرة العراقية المقيمة في النرويج عن تجربتها، وعن التقاليد الشعرية العراقية التي ترَّبت عليها، وعن معاني العيش خارج العراق:
* لنبدأ بسؤال تقليدي عن البدايات والمؤثرات الأولى. لماذا الشعر وليس أي كتابة أخرى؟ ولماذا تمزجين الشعر بفكرة النص السردي؟
– ولنبدأ الرد بجواب تقليدي أيضاً، بالنسبة للبدايات لا أستطيع تحديد نقطة البداية تماماً ولكن وجدتني متورطة في الكتابة مبكراً جداً. تعلمتُ اللغة العربية في المدرسة لأنها ليست لغتي الأم وكان لأبي الأثر الكبير في حبي لهذه اللغة الجميلة إذ كان مدرساً لهذه اللغة وأذكر أنني تعرفت على نازك الملائكة وأنا ابنة خمس سنوات عندما كان أبي يتحدث عنها بجمالية أحسستها غريبة وظلّت عالقة في ذهني. وبفضل أبي أيضا كنت أحصل على كتب تناسب عمري وقتها وكنت اقرأ بشراهة وأطالع أي شيء يقع في يدي حتى لو كانت قصاصة من صحيفة قديمة حتى وجدتني يوماً أطلب من والدتي شراء دفتر خاص وقلم حبر كي أدون وأكتب ما كنت أجده كتابة آنذاك. والمفارقة تأتي هنا إذ كنت أجيد التكلم والكتابة باللغة العربية الفصحى ولكني كنت أعاني من التحدث باللهجة العراقية العامية وهذا ما سبب لي بعض الحرج ولفترة طويلة فانكببت على محادثة الكتب فهم كانوا أصدقائي حينها.. واستمريت.
أما لماذا الشعر، فهذا ليس وارد بالنسبة لي، صحيح انني بدأت أولاً بنشر الشعر ولكن مجموعتي الأولى “انحراف التوابيت” كانت مجموعة سردية. كتبت القصة والشعر وتجربة مسرحية عندما كنت طالبة في الجامعة وكنت أحصل على المراتب الأولى دائماً في المهرجانات الابداعية في الجامعة.
حتى هذه اللحظة لا أستطيع تحديد ما أكتبه تحت أي جنس كتابي، هل هو شعر أم سرد أم ماذا. ولكني أحاول أن أكتب اللحظة التي تملي علي بالصور واللغة ولم أفكر يوما أن أضع ما أكتبه في قالب محدد أو مسمى واضح. أجد هذا من شأن الآخر المتمثل بالمتلقي والنقد إن وجد.
* بعد “انحراف التوابيت”، كتابك الأول، لماذا انتظرت اثنتي عشرة سنة لكي تصدري كتابك الثاني: “أسفار العزلة”؟ هل تحسّين أن تجربتك تأخرت في الوصول إلى القارئ؟
– أنا لم انتظر هذه المدة كي أصدر كتابي الثاني ولكني توقفت لمدة عشر سنوات لأسباب شخصية كما أنني انقطعت عن كل شيء حينها تحديداً بعد صدور كتابي الأول سنة 1996. لم أجد ذلك الفراغ الذي كان يشغلني وأشغله لأنحت فيه صوري وأفكاري فتوقفت. كتابي الثاني “أسفار العزلة” جاء نتيجة كل ذلك الارتباك الذي حدث خلال تلك السنوات العجاف ولم يأت واضحاً كما كنت أرجو له وهذا ليس معيباً أن نرفض بعض ما نكتبه.
تجربتي وصلت سابقا قبل صدور كتابي الأول في نطاق محلي لأننا كنا نعيش في عزلة ثقافية، ولست آسفة أنني تأخرت عن أقراني إذ لدي قناعة أن كل تجربة لها وقتها للوصول المهم أنها ستصل يوما وهذا ما أسعى إليه الآن.
* يُلاحظ القارئ في تجربتك ثراءً معجمياً ولغة دسمة. أية استثمارات تقدمها لك هذه اللغة؟ وهل لهذا علاقة بكونك شاعرة عراقية، حيث نجد صرامةً وجِديّة أكثر في التكوين الشعري والشخصية الشعرية؟
– قراءتي المبكرة كانت “دسمة” وقلما كنت اقرأ الروايات بل كنت أسعى إلى قراءة الكتب الفلسفية والتاريخية وكتب أجدها الآن غريبة وكيف كنت اقرأها وقتها. وأنا من طبيعتي تستفزني الكلمات الجديدة وكيفية توظيفها من البعض في صور مبتكرة لا تجد لها رديفاً من قبل. ربما وعيي الكتابي الذي غلب فطرتي في بعض الأحيان جعلني أكون دائمة البحث عن مناطق غير مشغولة من قبل. وهذا أمر يعيبه البعض على المبدع ولا يتقبله الكثيرون. ولكني حقيقة لا أتعمد هذا النهج من أجل استفزاز ذائقة القاريء أو قرفه في نفس الوقت، وانما هو نتاج فكر معين يختلف من كاتب إلى آخر. وأحب أن أقول لك هنا من باب المداعبة إن اشارتك إلى أسلوبي كوني شاعرة عراقية لن يعجب كثيرين وقد يثير حفيظة البعض، فلا استطيع تأييد انطباعك حتى لو كان هذا من حقك كقارىء ومبدع يتلقى التجربة بحسب رؤيته. الشعر لا جنسية له برأيي، ولكنني أستطيع تأكيد تأثير البيئة والخلفية الحضارية والثقافية للمجتمع الذي نشأت فيه على تجربتي.
* هناك نفوذ كبير لأسئلة الذات والعزلة والخسارة والانتظار في نصوصك. هل نجاة الشاعر من مرارة الواقع وكابوسيته غير ممكنة؟
– نشأت في عائلة متخبطة بين الصوفية والتقدمية والشيوعية أحيانا، كنت أراقب جدي وهو يدخل عزلته لأيام طويلة ويكاد لا يكلم أحداً ودائماً كنت اتساءل: ما الذي يراه في عزلته ومن معه خلف باب التكية التي كان يقضي معظم أوقاته فيها. فيما كنت التفت لأجد أبي يتحدث عن لينين وأجد فرداً أخر في العائلة يتحدث عن فرويد حتى انغمست في قراءته مبكرأ جداً، كل هذه الاجواء المتناقضة حولي منحتني الفضاء للتأمل والسفر بعيداً إلى باحة الأسئلة الملحّة. الخسارة حاضرة في حياتي الشخصية والفقد جربته بكل مستوياته وأشكاله وبأبشع صوره التي لا يحتملها عقلي لحد الآن ونتيجة لهذا لا أجيد سوى الانتظار وترقب وجه آخر من حياتي التي لم أعشها. نجاتي الوحيدة حالياً هي الكتابة، وأفهم جيداً أنها تورًّط أكثر منها نجاة.
* هل تحسين أنك تنتمين إلى جيل شعري معين أو مزاج شعري محدد؟ ما هي خصوصية هذا الجيل إن وُجِد؟
– لا أحس نفسي منتمية. أؤمن باللانتماء. ربما هناك مزاج شعري يوافق مزاجي فليست هناك تجربة تولد مثل فطر بري. كلنا نتأثر ونؤثر ولا يمكنني هنا فهم المزاج الشعري بالضبط، أكتب وكفى.
* بعد ثلاث مجموعات، كيف تصفين علاقتك بالكتابة؟ ما الذي تخليتِ عنه وما الذي اكتسبته أو تسعين إلى اكتسابه؟
– ثلاث مجموعات أو مئة لن تستطيع تحديد العلاقة بالكتابة، علاقتي بها متوترة وكثيراً ما ينتابني شعور غريب بالتوقف فجأة. هناك تفاصيل أخرى في الحياة تتداخل مع هذه العلاقة تؤثر عليها سلباً او إيجاباً. تخليت عن الكثير أهمها راحة البال والنوم بصفاء وأظن أنني ظلمت طفولتي بالبلوغ مبكراً ولكني اكتسبت الكثير أيضاً، هذا الأفق الواسع الذي يمنحني رؤية العالم بمنظار مختلف رغم إنني أواجه عجزاً في أن أعيشه كما يجب. الخسارات والمكتسبات على حد سواء هي ضريبة أن تكون موجوداً.
* تبتعدين في شعرك عن الصورة التقليدية للمرأة الشاعرة. لماذا تلجئين إلى ذلك؟ هل في هذه الممارسة انتقاد مبطــّن لما تكتبه الشاعرات؟
– هناك فهم خاطىء عن المرأة الشاعرة خصوصاً في مجتمعنا، فهي عندما تكتب عن ذاتها حالها حال الرجل الشاعر عندما يكتب عن ذاته، فلماذا يعاب عليها هذا بينما هو طبيعي بالنسبة للرجل؟ هذه نقطة، النقطة الثانية ما عزّز هذا الفهم هو مساهمة المرأة نفسها في وضع تجربتها ضمن إطار محدد لا يمكن تجاوزه. بالنسبة لي أنا أفهم الكتابة أنها عالم شاسع متفرع إلى مناطق اشتغال جمّة وهي متاحة للجميع وعندما ألج هذا العالم أخلع عني صفة الجندر وأترك للحظة الكتابة والإنفعال حرية التجول في هذه المناطق وتختار ما يناسبها حينها. ليس من حقي انتقاد أحد طالما يجد نفسه في المنطقة التي يشتغل فيها، وربما لو رضخت شاعرة ما وتحولت إلى منطقة أخرى تفادياً لهذا الانتقاد سوف تفشل في التجربة لأنها لن تجد نفسها هناك. المسألة تابعة لمدى الوعي الابداعي وهذا يختلف من مبدع لآخر. أنا جزء من هذا العالم وليس العكس. ومن حق بصيرتي علي أن تتبع بقية الجزئيات بعيداً عني وهذا ما يتجلّى في بعض تجربتي.
* يُقال إن الشعر بات شأناً شخصياً في غياب الأحلام والقضايا الكبرى. إلى أي حد أنت حاضرة في نصوصك؟
– أستطيع أن أعتبره في لحظة الكتابة شأناً شخصياً، أما بعد ذلك وعندما يكون متاحاً للآخرين فلن يكون كذلك، لقد خرج من عتمة الذات إلى رحاب التلقي. وكما أقول دائما ليس مطلوباً من الشعر حلّ القضايا الكبرى، فلكل جانب جمالي في الحياة نصيب من الأنانية الضرورية وهكذا هو الشعر. لا أغيب عن نصوصي حتى وأنا أكتب عن الآخر وعن اللاآخر، هناك حضور دائم لروح منال المحرّضة لملء الفراغ.
* أخيراً… ماذا عن إقامتك الحالية في النرويج؟ هل ثمة وجه إيجابي للمنفى؟
– انتقلتُ مؤخراً للاقامة في بلد لم أفكر فيه من قبل اطلاقاً لأسباب واضحة للعيان وهو ما يحدث في العراق الآن، فلم أعد أتقبل الفقد أكثر، وجلّ همي كان حماية ابني وابنتي من أن يكونا شاهدي عيان على مأساة تاريخية يمر بها العراق. أحاول قدر الامكان أن أحافظ على الصورة الجميلة في ذهنيهما عنه. وأعذرني هنا على مصطلح المنفى الذي لا يتقبله عقلي، خصوصا عندما يكون المكان من اختيارك. المنفى موجود في داخلنا ولا علاقة له بالمكان. النرويج بالنسبة لي مكان آمن وبديل صوري لمسمى الوطن الذي خرجت منه. الايجابيات والسلبيات نسبية هنا بقدر تكيف الفرد وكل بحسب وضعه. أما ما يخص الجانب الابداعي فأنا هنا وجدت الاحترام والترحيب أكثر لتجربتي التي تسعى بعض المؤسسات لترجمتها وتقديمها للقارىء الغربي. وسعادة بعض الأصدقاء هنا بصدور كتاب لي تفوق سعادة آخرين من أبناء جلدتي. فضاء الحرية المتاحة هنا تمنحك الفرصة للتعرف على ذاتك أكثر وهذا كله ينعكس على تجربتي الكتابية. شهيتي مفتوحة للكتابة الآن وتكفي هذه نقطة ايجابية لمفهوم “المنفى”.
الراي