عشرة أسباب وراء بدء دمشق المفاوضات غير المباشرة برعاية تركية
ابراهيم حميدي
دخل موقف جديد الى الخطاب السياسي السوري في الفترة الاخيرة، مفاده ان دمشق مستعدة للانتقال الى»مفاوضات مباشرة» مع إسرائيل في المستقبل القريب في حال أسفرت «المفاوضات غير المباشرة» الجارية برعاية تركية عن تقدم ملموس، ما يعني ان سورية لم تعد تربط بدء المحادثات المباشرة بانتهاء ولاية الرئيس الاميركي جورج بوش وانتخاب رئيس جديد.
هل يعني هذا ان الإمكانية قائمة لحصول اختراق كبير يصل الى حافة اتفاق السلام بين سورية وإسرائيل في الأشهر الستة المتبقية من العام الجاري؟
لا خلاف ان كل طرف من أطراف معادلة التفاوض السوري -الإسرائيلي، منخرط في هذه العملية لأسبابه الخاصة التي ربما لم تكن في البداية تنطلق في شكل مباشر من الرغبة في الوصول بسرعة الى اتفاق سلام. لكن مع مرور الوقت راحت هذه العملية تأخذ ديناميتها التصاعدية الى ان وصلت الى بدء المحادثات غير المباشرة في اسطنبول الاسبوع الماضي.
تعود الجهود التركية الى زيارة الرئيس بشار الأسد أنقرة في بداية العام 2004، حيث تكثفت بعد حرب تموز 2006. كما قامت أنقرة بجهود إضافية بعد العملية العسكرية الاسرائيلية على شمال سورية في ايلول الماضي لاعتقادها ان فتح هذه القناة يخفف من التصعيد العسكري بين البلدين.
وخلال الفترة السابقة، مرت الوساطة التركية بمراحل صعود وهبوط على خلفية وجود «فيتو» واضح من إدارة الرئيس بوش التي أبلغت حكومة إيهود أولمرت بوجوب «عدم اختبار» المسار التفاوضي السوري. لكن هذا الموقف الاميركي بدأ يلين بعد اتخاذ دمشق «قراراً شجاعاً» بالمشاركة في المؤتمر الدولي للسلام في أنابوليس في نهاية تشرين الثاني الماضي.
وعلى رغم استمرار مساعي حكومة رجب طيب أردوغان بإصرار وصبر شديدين، بادر الجانب السوري الى الإعلان في الشهر الماضي عن هذه الجهود وان دمشق حصلت على قبول أولمرت الانسحاب الكامل من الجولان. أعقب ذلك زيارة لأردوغان لاطلاع الأسد على تفاصيل عرض أولمرت، ما أدى الى توافر شروط بدء المفاوضات غير المباشرة.
عندما أعلنت دمشق عن حصولها على وعد بالانسحاب الكامل، أرادت اختبار أولمرت علناً. وكان إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي انه «يعرف ما تريده سورية، وسورية تعرف ما نريده» بمثابة رد ايجابي على الاختبار، ما شجع دمشق على المضي قدماً في إرسال مسؤولين الى اسطنبول للبدء بالمفاوضات.
الواضح ان كل طرف يقوم بهذه الاتصالات غير المباشرة، لأسباب متداخلة:
بالنسبة الى تركيا، فإن حكومة أردوغان تريد المساهمة في الحفاظ على الاستقرار السوري ولعب دور في فك العزلة التي كانت سعت أميركا ودول أوروبية وعربية فرضها عليها، فكانت تركيا بين الدول الوحيدة التي لم تلتزم «سياسة العزل». وينطلق هذا من جملة عوامل، بينها المنافسة مع إيران المنطلقة من عوامل تاريخية تعود الى مئات السنين، ومن عوامل سياسية على النفوذ في الشرق الأوسط.
ذلك، ان المسؤولين الأتراك بدأوا في العام الماضي ديبلوماسية تحظى بتشجيع دول عربية وغربية معتدلة، ذلك بهدف مواجهة المد في النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. وكان جوهر الموقف التركي يقوم على الاعتدال وتعزيز خيار استمرار عملية السلام لتحقيق الاستقرار.
في هذا السياق، يمكن وضع مشاركة الجانب التركي في مؤتمر أنابوليس ولعب حكومة أردوغان دوراً في توفير شروط مشاركة سورية في هذا المؤتمر، وصولاً الى قفزها في الفترة الاخيرة الى الساحة اللبنانية كمجال للبحث عن النفوذ، ومن المستبعد ان يروق هذا التحرك طهران.
أما بالنسبة الى سورية، فكان لافتاً أنها باتت في الفترة الاخيرة تميل الى «توسيع الخيارات» بدل حصرها. شاركت في مؤتمر أنابوليس على رغم التحفظ الإيراني وأبقت على القناة التركية، ثم فعلتها وراحت تتحدث عن المفاوضات المباشرة، ذلك على اساس الاعتقاد ان توسيع أفق خيار التفاوض يساهم في تحقيق جملة من المكاسب:
أولاً، ان استعادة الجولان أولوية بالنسبة الى الحكومة السورية لا يمكن ترك اي خيار سياسي لاستعادتها.
ثانياً، ان بدء المفاوضات السلمية يسحب من خصوم دمشق ذخيرة إضافية تستخدم لممارسة مزيد من الضغوط السياسية عليها عبر المحكمة الدولية باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ثالثاً، يخفف من مساعي بعض متشددي إدارة الرئيس بوش لاستعمال «الملف النووي» بطريقة سياسية تصاعدية من الوكالة الدولية للطاقة الى مجلس الأمن الدولي.
رابعاً، ان التفاوض يكسر المعادلة التي تجرى مساع لتكريسها وهي: دول الاعتدال العربي ودول التشدد.
خامساً، يساهم في حد كبير في رفع المسار السوري في جدول أعمال الاهتمام الدولي بالشرق الأوسط عموماً وبجدول الاهتمام الاميركي، خصوصاً، في هذه الفترة الفاصلة بين نهاية ولاية بوش وانتخاب رئيس جديد.
سادساً، يخفف التوتر ويبعد الخيار العسكري بين سورية وإسرائيل.
سابعاً، البحث عن خيارات بديلة لتعزيز الاستثمار وحل المشاكل الاقتصادية والتخفيف من أعباء الازمة الدولية.
ثامناً، إيجاد تداخلات مرنة في العلاقات مع الدول العربية بعد استضافة القمة العربية في نهاية آذار الماضي.
تاسعاً، تذكر الحلفاء في «حماس» و «الجهاد» و «حزب الله» وإيران ان لسورية خيارات سياسية تقوم على التفاوض مع إسرائيل لاستعادة أرضها المحتلة.
عاشراً، التعبير عن تقدير الدور التركي و «الثقة المطلقة» بحكومة أردوغان ووقوفها الى جانب دمشق في السنوات الصعبة.
ولا يمكن فصل «عجلة» أولمرت في تنشيط المسار السوري عن المشاكل الداخلية التي يواجهها على خلفية اتهامات بالفساد. ويضاف الى ذلك، ان أولمرت يريد الهروب من الضغوط الأميركية لإنجاز ما على المسار الفلسطيني قبل نهاية ولاية بوش، وان بدء المفاوضات مع دمشق يساهم في تخفيف التوتر على الحدود الشمالية.
ومن الأسباب الأخرى لاهتمام أولمرت بالمسار السوري، هو اعتقاد كبير بأن ذلك يؤدي الى ابتعاد سورية عن إيران وإضعاف «حزب الله» و «حماس»، على اساس ان تل أبيب ترى ان إيران هي «الخطر الأكبر». لهذا سعى أولمرت الى إقناع بوش في لقائهما الأخير الى عدم الاعتراض على مفاوضات المسار السوري، فانتقل بوش من الضوء الأحمر الى البرتقالي من دون ان يصل الى إشعال الضوء الأخضر واعطاء غطاء كامل لهذا المسار.
وليس صدفة ان الجهود التركية نشطت بعد التطورات الاخيرة في لبنان، وان تزامناً حصل بين إعلان توصل الفرقاء اللبنانيين الى «صلح الدوحة» متضمناً الثلث الضامن للمعارضة في الحكومة الجديدة، وبين صدور بيانات في دمشق وأنقرة وتل أبيب عن بدء المفاوضات غير المباشرة، تماماً كما حصل تزامن سابق بين مشاركة سورية في مؤتمر أنابوليس والتوافق على تسمية العماد ميشال سليمان مرشحاً للرئاسة في نهاية العام الماضي.
الواضح ان دمشق لا تزال تسير في سياسة «الخيارات المفتوحة» الى حد انها تجمع التناقضات في الشرق الأوسط.
هي تفاوض إسرائيل عبر البوابة التركية بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع العماد حسن توركماني الى طهران وتأكيده «العلاقات استراتيجية». كما ان وزير الخارجية وليد المعلم اختار ان يجلس الى جانب نظيره الإيراني منوشهر متقي في الجلسة البرلمانية التي خصصت لانتخاب العماد سليمان يوم الأحد الماضي.
لا يمكن توقع ان تقبل دمشق شروط بعض المسؤولين الاسرائيليين عن ضرورة تخلي دمشق عن حلفائها كشرط مسبق للتفاوض، خصوصاً ان ما قالته وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني يقع ضمن التنافس مع أولمرت. ولا يمكن الخطاب السوري الا ان يكون قائماً على ضرورة عدم استعمال المسار السوري ضد الفلسطيني وضرورة التهدئة في قطاع غزة وعدم استعمال المفاوضات السورية لتصعيد الانتهاكات على الشعب الفلسطيني.
لكن، لا يمكن نسيان الديناميات المتولدة عن أي اتفاق سلام سوري – إسرائيلي لا يزال في مرحلة التفاوض، حيث يتطلب ذلك من دمشق الكثير من التشابك بين الملفات والحذر في التعاطي مع متناقضات قضايا الشرق الأوسط.
الأطراف المعنية بالمفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، لديها الأسباب للإبقاء على آلية الدفع الموجودة ربما لأسباب لا تمت في شكل مباشر الى العملية، لكن الدينامية المتولدة قد تصل الى منطقة لم يكن يخطط لها اي من الأطراف المعنية.
ولا شك في ان نجاح تركيا في إيصال الجانبين السوري والإسرائيلي الى حافة توقيع اتفاق السلام، سيقنع بوش بالقفز الى قارب هذا المسار الذي كان دائماً يعارضه، وإلا سيقتصر الإنجاز التركي على ان الرئيس الاميركي الجديد لن يبدأ من نقطة الصفر، بل سيجد المسار السوري في متناول اليد وان تقدماً ملموساً تحقق وهو: وقف التوتر العسكري.
الحياة