فاوضوا حتى الرمق الأخير!
سليمان تقي الدين
وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تقول للعرب: «فاوضوا إسرائيل».
أميركا تشعر بالخيبة من عدم تحقيق أي اختراق على خط التسوية السياسية، لكن أحداً لا يعرف ما هو الجهد الذي بذلته في سبيل ذلك سوى إرسال مبعوث للعلاقات العامة اسمه جورج ميتشل. لم نعرف مهمته بالضبط، لم نسمع أنه يقترح مبادرة، ولم يصرح يوماً أن لديه أفكاراً للحل.
أميركا حين تريد مطلباً تتصرف على أنها صاحبة الأمر والقرار وواجبة الطاعة. لا تكتفي بالعقوبات وبتأليب القوى وحشد التأييد بل تذهب إلى الحرب كذلك. حين رفع الرئيس أوباما شعار وقف الاستيطان مؤقتاً لتحريك المفاوضات ردت عليه القيادة الإسرائيلية بالمزيد من الاستيطان. لا نذكر في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية أن قادة الدولة العبرية تصرفوا بمستوى هذه اللامبالاة تجاه «النصائح» الأميركية. حقيقة الأمر أن قادة الدولة العبرية يستغلون ضعف الإدارة الأميركية ومشكلاتها. هم الذين استفادوا من تعثر المشروع الأميركي في المنطقة ليثبّتوا أقدامهم هنا ويعلنوا عن أهميتهم الاستثنائية للغرب. إسرائيل لا تحرّض الغرب على إيران والعرب فحسب، بل تتطوع لأخذ المبادرة في المواجهة. ما حصلت عليه إسرائيل من إدارة أوباما رضوخ استثنائي واستجابة كاملة لما تريده في الأمن. المفارقة العجيبة أننا نتحدث عن تعثر أميركا وأزمتها وما نزال نتعامل مع دورها في المنطقة كمرجع لا بد منه لإعادة بناء التوازنات السياسية. هكذا بالضبط نتحدث عن «توازنات سياسية» لأن النظام الرسمي العربي لم يعد يتصرف على أنه صاحب قضية، ولديه مع أميركا على الأقل مشكلة أساسية اسمها الدعم المطلق لإسرائيل.
على رأس السلطة في إسرائيل قيادة نصفها بالتطرف. غير أنها جاءت في ركاب الهجمة الأميركية على المنطقة وفي أحضانها وتحت مظلتها. يعلو الخطاب الإسرائيلي بمقدار ما يجد صدى في أميركا والغرب ورهبة وخوفاً عند العرب، عرب «الاعتدال» أو «الاعتزال» عن المواجهة السياسية.
من علائم هذا الزمن العربي الرديء أننا لم نعد نسمع مسؤولاً عربياً يرفع صوته بوجه التهديدات الإسرائيلية التي ذهب أصحابها إلى حد التلويح بتدمير «السد العالي» في مصر واحتلال سوريا وتغيير نظامها، فضلاً عن التهديدات الدورية بتدمير لبنان. طبعاً سنغض الطرف هنا عن تهديد إيران ولو أن هذا التهديد هو عبث خطير بأمن المنطقة كلها والعرب هم المسرح الحربي لها، سواء شاركوا في تلك الحرب أم لم يشاركوا. ربما هذا هو مفتاح فهم الموقف التركي المحمول على وعي المخاطر الناجمة عن الفوضى التي أطلق عنانها الاحتلال الأميركي للعراق والتداعيات المحتملة على مجموع دول المنطقة وكياناتها من محاولات الضغط عليها بالحرب الإقليمية أو بالحروب الصغيرة التي تدار بواسطة النزاعات الحدودية أو الأهلية. هنا نستعيد استحضار تلك الصلة العضوية بين السياسات الإسرائيلية والسياسة الأميركية. إسرائيل لم تشن حرباً من دون قرار أميركي وهي لا تدير صراعاً من دون تفاهم مع أميركا. رسمت أميركا دوراً لإسرائيل خارج الصورة المباشرة لحرب الخليج ثم في مرحلة احتلال العراق.
لكن إسرائيل تحصد وراء خطوط الجرافة الأميركية في كل مكان ولولا فشلها في لبنان وغزة لأعادت كرّة 1982 وعيّنت لنا رئيساً للجمهورية وللفلسطينيين أميراً على غزة، ولو استطاعت جاءت بالمنقلبين على النظام في سوريا إلى الحكم. علينا أن نذكّر أن أحد شعارات إسرائيل في حرب تموز 2006 كان تطبيق القرار 1559. إسرائيل من وراء أميركا وبعض «متصوفة» السياسة في لبنان و«رهبانها» أصحاب الأثواب النظيفة دعاة السلم والسلام لا يفعلون شيئاً إلا «كرمال لبنان». يحذرون من الحرب الإسرائيلية (القادمة) فقط لأن «السلاح» يستدرجها: تريدون استبعاد الحرب فاوضوا على «نزع السلاح» أو على احتوائه بإعطائنا القرار على السلاح، «قرار الحرب والسلم» كما يقولون!
وقد بلغ الذكاء مبلغاً عظيماً بشعار: شاركونا نشارككم. ولا ننكر عليهم أنهم نجحوا خلال السنوات الأربع بأن أخذوا إلى صفوفهم قطاعات واسعة من الجمهور اللبناني الذي فشلت المعارضة (الوطنية) أن تسترده حتى الآن لأنه ما زال يحلم بفكرة «السيادة والدولة» والاستقرار والأمن والازدهار الاقتصادي، ولا يقدم الآخرون له سوى المناكفات «الإصلاحية» والمزايدات الطائفية ولا يمتنعون عن استخدام «الخوف الطائفي نفسه» كما سواهم لزيادة رصيدهم السياسي.
لا شك أن الهبوط الاضطراري للخطاب السياسي هو من إنجازات المصالحة السورية السعودية وترجمتها في حكومة الشراكة، لكن تسويات أكبر وأعمق ومواثيق أشمل وأكثر تفصيلاً وإلزاماً ذهبت مع الريح كما «الطائف» و«الدستور» في هذا البلد المحكوم بشهوة السلطة التي لم يفطم أطرافها عن صدر النزاعات العربية والمشاريع الدولية والحروب المفتوحة على غارب مطامع النظام الإمبراطوري وعجز النظام الرسمي العربي وعجز بدائله.
السفير