دبلوماسية «العثمانيّين» الجدد
سلام الكواكبي *
تكاثرت في الآونة الأخيرة الأحاديث والتحليلات والتوقعات المتعلقة بالممارسات السياسية للدبلوماسية التركية الجديدة، وتوسّع الحديث عن بنيتها ودوافعها. وذهب بعض العرب بعيداً في إبداء الاعتزاز والامتنان لمواقف تركيا الإقليمية التي بدت لهم وكأنها الترياق المنقذ لمريض تكسّرت النصال على النصال في جسده من شدة وهن الأمة وخسائرها السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية، وحتى الرياضية. فهل من إمكانية لقياس هذا التحوّل الدبلوماسي من دون الوقوع في التبسيط المرتبط بالتبصير؟ وهل من السهل أن نتفهّم هذا الأمل الكبير المنعقد على تركيا الجديدة، وكأنها «المهدي المنتظر» الذي سيخلص المنطقة العربية وشعوبها من نير التخلف الداخلي والمصدّر؟
بداية، فإن الدبلوماسية التركية الجديدة ليست فعلاً جديدة للغاية. فقد بدأت في عقد التسعينيات من القرن الماضي محاولة إخراج تركيا من عزلتها الإقليمية وتقوية موقفها المفاوض الشرس للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولم يقدها حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً منذ البداية، وإن استفاد من انطلاقتها وعززها بطريقة فاعلة ومفعمة الذكاء لاحقاً. والدبلوماسية التركية التي تعتمد على قاعدة «صفر مشاكل مع الجوار» بعدما كانت قد اعتمدت منذ أفول الرجل المريض على سياسة «أنا الضحية في محيطٍ معادٍ»، ويجب عليّ إذاً الدخول في أحلاف عسكرية تحميني (الأطلسي)، وأن أضغط عسكرياً وأمنياً على الجوار (قبرص، أرمينيا، سوريا)، وأن أفتح أراضيّ وأراضي غيري التي أَحتلّها (اسكندرون) للقواعد الأميركية المتقدمة في المنطقة، وأن ألجأ إلى استخدام سلاح المياه الفعّال في منطقة يعبث بها الجفاف والسياسات الزراعية الفاشلة والفاسدة (سوريا والعراق)، وأن أعتمد القسوة والقمع والاضطهاد بحق المطالبين بالحقوق الأساسية إثنياً أو سياسياً (أكراداً ويساريين)، وحتى آخر القائمة.
لقد ترسّخ الوعي الدبلوماسي الجديد مع حزب العدالة والتنمية، ووجد القائمون المحترفون على الجهاز أنهم قادرون على تغيير قواعد اللعبة في الأقاليم القريبة المحيطة بهم، بل الوصول إلى أقاليم أبعد كانت في ما سبق حكراً على قوى عظمى تعيش اليوم حالات أفول متكررة. فيجب في غمرة الحديث عن السياسية التركية في العالم العربي ألا نغفل الامتداد التركي الفعّال والهادئ في آسيا الوسطى وصولاً إلى أقصاها، ولا حتى الدور المستجد في أفريقيا من خلال العقود التجارية واتفاقيات التنمية التي تقوم من خلالها تركيا، كما البرازيل، الدولة الصاعدة الأخرى في الطرف المقابل من الكرة الأرضية، بدور الدولة المانحة التي تأخذ شيئاً فشيئاً مكانها في نادي الدول الكبرى.
أما عربياً، فالألم التركي مستمرٌ منذ سقوط الإمبراطورية جرّاء الشعور بـ«خيانة» العرب للخلافة العثمانية وانخراطهم في مشروع «إمبريالي» غربي للحصول على استقلال ما فتئ أن أضحى احتلالاً أو استعماراً أو انتداباً أو حماية، فخرجت الدول العربية الحديثة من تحت الدلف (الإمبراطورية العثمانية) إلى تحت المزراب (الاحتلالات الغربية الحديثة). ولم يكن بالإمكان محاورة الأتراك في خطأ هذا الحكم وفي حتمية قيام الدول الوطنية في كل من البلدان التي كانت تحت مظلة الآستانة. وعلى الرغم من انقلاب الأتراك ذاتهم على إرث الإمبراطورية السياسي من خلال الثورة الكمالية والإصلاحات الدستورية الجذرية وقيام الجمهورية العلمانية المتشددة مكان الباب العالي مدّعي الخلافة، فإن العلاقة مع الجوار العربي بقيت محكومة بهذا الإرث الثقيل حتى زمن قريب.
إن الدبلوماسية التركية الجديدة تبزّ زميلاتها في المنطقة العربية من حيث أنها آلة ديناميكية تبحث عن مصلحة الدولة التركية الحديثة وتعززها، وليست بوقاً صدئاً لأنظمة تبحث عن شرعيتها. إنها تسعى من خلال انفتاحها الجديد والمتجدد على تعزيز الموقف التركي في مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وليس كما يظن ويتعشم بعض العرب بالتحول من الغرب الأوروبي إلى الشرق الإسلامي. هي تعي بالطبع القواسم المشتركة التي تغني علاقتها مع هذا الشرق، ولكنها في الآن ذاته تعي بوضوح وصرامة أن مستقبل وطنها مرتبط أيضاً بتعزيز دوره الأوروبي وامتداداته نحو الغرب. إن الورقة العربية/ الإسلامية هي أفضلية إضافية تضمها تركيا إلى ملفها التفاوضي وتعزز من خلالها موقفها. والغرب الأوروبي والأميركي واعٍ بدقة لما يحصل وهو ينظر إلى الدور الجديد لتركيا «الإسلامية» إيجاباً على الرغم من بعض المظاهر الإعلامية الانتقادية لهذا الدور.
حتى إسرائيل التي تُظهر حذراً وتشكيكاً في الدبلوماسية التركية الجديدة، تعي في العمق، وخصوصاً إن استندت لسياسات توازنات المصالح، أن هذه السياسات لا يمكن إلا أن تفيدها آجلاً أم عاجلاً لما يمكن لها أن تلعب من دور وسيطي، ولما يمكن أن تنقله من استراتيجية التحول من دولة «ضحية دول الجوار» إلى «صفر عداء مع دول الجوار»، والتي إن أرادت إسرائيل التوسعية والقائمة على الاضطهاد والحروب أن تستمر في المنطقة، فعليها أن تتبناه، أو على الأقل، أن تسعى إليه.
يجب بالنتيجة على العرب الابتعاد عن إضفاء الملائكية على الدور التركي الجديد، الذي هو بنفسه لا يدعيها. ويجب عليهم أن ينظروا في تقصيرهم الدبلوماسي الذي أوصلهم إلى الرثّ من المواقع العالمية. ومن الضروري أيضاً أن ينظر العرب إلى التجربة الديموقراطية التركية التي تتعزّز، وأن يقتنعوا بأن لا حلّ لمشاكلهم مهما تعددت إلا استناداً إلى شرعية ديموقراطية تعتمد صناديق الاقتراع التي يقف أمامها كل المواطنين متساوين في الربح وفي الخسارة. وإن كان رجب طيب أردوغان رئيساً ناجحاً للحكومة اليوم في تركيا، وإن كان محمد داوود أوغلو وزيراً لامعاً لخارجيته، فهما لن يكونا كذلك بعد سنوات قليلة، ولن يأتي من بعدهما أولادهما وأحفادهما، بل سيأتي آخرون ومن أحزاب مختلفة ربما. أما السياسة التركية التي حملت النفع للدولة التركية الحديثة، فلن تذهب برحيلهما، بل ستتعزّز لما في ذلك من مصلحة للشعب التركي بمعزل عمّن يقوده أو من يحكمه. هكذا تبنى الأمم، ربما.
* كاتب سوري