تدويل المنطقة وإعادة تشكيلها
سليمان تقي الدين
لا نعرف في التاريخ الحديث منطقة من العالم جرى تدويل مشكلاتها كما هو حال منطقتنا . اسقط الغرب مشروع محمد علي باشا والي مصر، ثم أطاح بالامبراطورية العثمانية . ما زلنا حتى الآن في دائرة “المسألة الغربية” . لم تبق دولة غربية قوية إلاّ تدخلّت في شؤوننا . ما أنجزناه في نصف القرن الأخير من استقلال سياسي تعرّض لموجة جديدة وأشكال جديدة من الاختراق . استخدم الغرب القضية الفلسطينية مدخلاً لتدويل المنطقة متخذاً لنفسه دور الوصاية في إدارة الصراع العربي “الإسرائيلي” . في نهايات القرن الماضي استخدم الحروب الإقليمية مع الثورة الإيرانية لكي يعيد احتلالها بالقواعد والاساطيل والاتفاقات وبالحرب المباشرة واحتلال العراق . ورثت أمريكا الاستعمار التقليدي الأوروبي وبدأت بسياسة الأحلاف . رعت الحروب “الإسرائيلية” على الدول العربية وأدارت المؤتمرات الدولية والمفاوضات . الغرب الآن يدير الصراعات والنزاعات في كل المنطقة ويكاد يكون أكثر انضواء تحت القيادة الأمريكية من أي وقت آخر . الجديد الوحيد في المشهد الاقليمي استشعار كل الدول الآسيوية مخاطر إعادة تشكيل نظام المنطقة . يأتي الاعتراض على المشروع الأمريكي من إيران ومحيطها حتى الصين، ومن تركيا التي تشكل أحد مكونات هذه الدائرة لتداخل جغرافيتها وتكوينها بالتراث الإسلامي .
هذا التدويل الجديد يهدف بالأصل إلى ترتيبات أمنية سياسية اقتصادية وثقافية تؤمن استقرار السيطرة الأمريكية بشراكة متفاوتة لحلفائها الغربيين . اذا استحال بناء نظام خاضع ومستقر فلا بأس بالفوضى طريقاً لهذا الإخضاع . هناك مسار طويل معقد تتغير من خلاله الوسائل والأساليب وأحياناً التحالفات . لكل طرف في هذه المنظومة أو هذا المسرح “الشرق أوسطي” وظيفة ودور تعلو وتهبط بالنظر إلى حاجتها في رسم ميزان القوى الكبير . بهذا المعنى، الإقليات على وجه التعميم، الاثنية والدينية والمذهبية والقبلية، تكون لها مهمات في هذا المشهد لكنها ليست في المدى البعيد إلاّ بيادق صغيرة . هكذا شاهدنا لبنان في بعض الوقت وكأنه مركز اللعبة الاقليمية ليصبح في لحظة أخرى خارج الموضوع . تبدّلت السياسة الأمريكية في أفغانستان والعراق وباكستان احتضنت قوى وتخلّت عنها أو حاورت خصومها . مارست القتال التفاوضي وهي على استعداد لتجريب كل الخيارات . من يعتقد أن الحرب لم تعد خياراً لا يقدّر أن الحرب لم تتوقف أصلاً وهي جارية بصور مختلفة وأنها قد تتحول إلى مواجهة شاملة عندما يتهدد النفوذ الأمريكي أو عندما يستشعر أن المسار أفلت من السيطرة . في العصر الأمريكي هذا، عصر القوة، لا أحد يستهين بحجم وطبيعة وسائل التدمير التي يمكن استخدامها .
ما جرى استخدامه في العراق لم يكشف على حقيقته . ما استخدمته “إسرائيل” في لبنان من سلاح محرّم ظل مسكوتاً عنه . ما لدى هذه القوى من ترسانة جهنمية من أسلحة الدمار والفتك لن يكون خارج الميدان . في هذه المنطقة يتقرر مصير النظام الدولي كله بمفاصله الرئيسية، من يتولى قيادة الغرب ويبسط سيطرته على العالم الثالث، من يتحكم بمصادر الثروات الطبيعية، من يقرر شكل العلاقات الدولية ووظائف المؤسسات الدولية . هل تتجدّد الرأسمالية العالمية بالمزيد من الأسواق والنهب وصناعة السلاح وتمتلك أفاقاً للتقدم التكنولوجي، أم ستعاني من الركود والانكماش وتستورد الازمات إلى ديارها، وتضطر إلى المزيد من تدخل الدولة وكبح الليبرالية المطلقة والحد من اتساع الاقتصاد الرمزي، أو فرض قواعد جديدة لتنظيمه .
إذا صح هذا الفهم او هذا التشخيص الذي يتلخّص في تدويل منطقتنا واخضاعها لعملية (كولونيالية) تصبح كل المسارات السياسية التي نراها داخل حدود المنطقة، وداخل دولها ومجتمعاتها عناصر ثانوية إزاء التحدي الأكبر الذي هو إعادة تشكيل نظامها، أمناً واقتصاداً ودولاً وكيانات وتوازنات . ويصبح الغوص في الكثير من المشكلات الداخلية نوعاً من السقوط في اللعبة الدولية والقبول بشروطها . فلا الأقليات الاثنية أو الطائفية ولا القبائل والمذاهب هنا أو هناك إلاّ عناصر ثانوية جداً تندرج في المشهد الكبير لإضعاف مناعة المجتمعات وليس الدول فقط .
تستخدم أمريكا فريقاً لبنانياً أو أزمة داخلية يمنية أو معارضة إيرانية أو سلطة فلسطينية أو مذهباً عراقياً أو مخاوف نظام على حدوده، أو جماعات أصولية الخ . . لكن هذه جميعها لا تشكل في المستقبل النظام الإقليمي، ولا الكيانات والدول، ولا تستقطب الخيارات لدى الشعوب، هذه فقط حطب المحرقة التي تشعلها أمريكا ومادة التسويات الكبرى التي تتم التضحية بها . عند أول استحقاق، هكذا اسقطت جمهورية ماهاباد في يالطا . وسقطت الدويلات السورية في سايكس بيكو وتشكل العراق ورسمت حدود تركيا وانتهى حلف بغداد وفريقه اللبناني، وانتهت مملكة فيصل وضاعت دولة الأرمن والكرد وانقسمت ألمانيا وكوريا والصين وضاع استقلال دول أوروبا الشرقية الخ . . وحين يأتي موعد القطاف لهذا المشروع الدولي قد تتغير خارطة المنطقة بفعل الأقوياء الذين سيربحون الحرب، الحرب الكبرى لا الحروب الصغيرة . التاريخ لن يفيدنا بشيء، أمس انهارت الإمبراطورية السوفييتية وقد تنهار دول وامبراطوريات . الشعوب التي تعرف مسؤولياتها تتجمع وتتشبث بعناصر تماسكها بمشتركاتها بثوابتها الجغرافية ومكوناتها وتحاذر الدخول في لعبة الأمم . لا نعرف غداً أين ستكون حدود دولة المستقبل ولا أين ستكون دولة الفلسطينيين وما مصير الأردن وحتى مصير “إسرائيل”، وماذا يبقى من إيران أو أين ستتسع حدودها . وهل يبقى العراق دولة واحدة، وهل تنتقل غزّة إلى سيناء ام سيسقط الجدار وتستعيد مصر مسؤوليتها عن القطاع . إذا كانت هذه احتمالات ممكنة فلا أقل من أن يلتقي العرب على تحديد هذه الأخطار وتداركها .
الحليج