صبحي حديديصفحات سورية

العلاقات السورية ـ الامريكية: معادلة المطرقة والسنديان

null
صبحي حديدي
لعلّها محض مصادفة، وإنْ كانت تنطوي على مفارقة هي أمّ المفارقات في العلاقات بين الولايات المتحدة والنظام السوري، أن تتمّ تسمية السفير الأمريكي الجديد في دمشق، روبرت فورد، في الأيام ذاتها التي شهدت، ولكن قبل خمس سنوات، سحب السفيرة الأمريكية مارغريت سكوبي، على خلفية شكوك البيت الأبيض في مسؤولية النظام السوري عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ولعلّها المصادفة ذاتها، واستكمال دراما المفارقة، هي التي جاءت بأبرز مساعدي وزارة الخارجية الأمريكية، وليام برنز، إلى العاصمة السورية، واجتماعه مع بشار الأسد قبل يومين، وإطلاق أولى النذر على بدء التسخين الفعلي لطور جديد في العلاقات مع النظام.
وإذا لم تكن هذه من عجائب المصادفات، أو ائتلاف الوقائع المتنافرة في الشكل على الأقلّ، فإنها ببساطة من مقادير علم السياسة البسيط، وفي شطر أساسي من ركائزه الكبرى: ضرورة خدمة مصالح الفرقاء، منفردة كانت أم مشتركة، وعلى أية قاعدة متاحة، وسيّان أن تكون مثالية أو مكيافيللية أو في منزلة بين أيّ منزلتَيْن. وهي مقادير تؤكد أنّ مناخ التوتر الذي خيّم على علاقات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مع النظام السوري لم تكن تصنع تناقضاً تناحرياً في المصالح، بقدر ما كانت نتيجة طبيعية لمناخات التوتير التي أشاعها في المنطقة بعض أقطاب المحافظين الجدد الذين حدث أنهم كانوا بين كبار رجالات الإدارة، من نائب الرئيس ديك شيني، إلى وزير الدفاع دونالد رمسفيلد، دون إغفال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل ودوغلاس فايث وإليوت أبرامز…
وكان طبيعياً أن تحتلّ سورية، قبل النظام السوري في الواقع، مركزاً متقدماً في عمليات التوتير تلك، بالنظر إلى خصوصية موقعها الجيو ـ سياسي الذي يجعلها جارة العراق ولبنان والأردن والدولة العبرية وتركيا، إلى جانب علاقتها شبه التحالفية مع إيران، العامل الأهمّ المتمثّل في أنّ إسرائيل تحتلّ هضبة الجولان السورية منذ 1967. وإذا كان الجيش السوري قد تراجع، عتاداً وتدريباً ومعنويات، في العقد الأخير من حكم حافظ الأسد، مثل العقد الأوّل من حكم وريثه بشار الأسد، فإنّ رهط المتشددين في البيت الأبيض اعتبروا أنّ أخطار هذا الجيش ما تزال قائمة أياً كانت مستوياتها، ومن الخير تحويلها إلى فزّاعة أخرى ضمن معطيات التوتير.
وكان أمثال رمسفيلد يضيفون احتمال امتلاك الجيش السوري لأسلحة الدمار الشامل، والأسلحة الكيماوية والجرثومية، والأسلحة التقليدية المتقدّمة في المجال الصاروخي تحديداً، وما تشكّله هذه المعطيات من تهديد داهم، ودائم، على الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وعلى أمن الدولة العبرية. وكان سواه لا ينسى تضخيم تورّط النظام في تهريب السلاح إلى داخل العراق، عن طريق الأجهزة الأمنية أو السماسرة شركاء بعض كبار الضباط، ولا يفوته اجترار الجعجعة العتيقة حول احتضان النظام لمجموعات ‘إرهابية’ مختلفة العقائد ومتباينة الأهداف، تبدأ من ‘القاعدة’ ولا تنتهي عند أحمد جبريل…
الأمر رقم 13338، الذي وقّعه بوش في أيار (مايو) 2004 القاضي بوضع ‘قانون محاسبة سورية’ قيد التنفيذ، كان ذروة تلك الحماقة الدبلوماسية الأمريكية المتمثلة في إعلان ‘الحرد’ من النظام السوري، وتطبيق ‘حصار’ شكلاني يشمل حظر تصدير الذخائر والموادّ ذات الإستخدام المزدوج، ومنع الطيران السوري من حركة الهبوط أو الإقلاع في المطارات الأمريكية، فضلاً عن إنهاء التعاملات بين وزارة الخزانة الأمريكية والمصرف المركزي السوري. وأمّا الجانب السياسي لهذا الـ’حصار’ فقد تكفّل بتفريغه من مضمونه عدد من كبار النوّاب الأمريكيين (جمهوريين وديمقراطيين على حدّ سواء) كلّما اقتضت ذلك المصلحة العامّة (للولايات المتحدة، وللدولة العبرية)، أو المصلحة الشخصية لهذا النائب أو ذاك (السناتور الديمقراطي بيل نلسون، مثل السناتور الجمهوري أرلن سبكتر، دون أن نغفل الإشارة إلى المرشّح الرئاسي الديمقراطي السابق جون كيري، وآخرين).
لكنّ علم السياسة، في فصوله التي لا تُعلي على خدمة المصالح أيّ اعتبار، كان يجبر واشنطن على إبقاء مناخات التوتير عند حدود منضبطة، لها أن تذهب أنّى تشاء في اللفظ والبلاغة، كما الحصار والحرد والإيحاء بالعزل والمقاطعة… ولكن ليس لها، البتة، أن تجازف بصبّ أيّ زيت على نار متقدة، حتى وإنْ كان اتقادها تحت الرماد فقط. فأيّ مصلحة لواشنطن، التي تحتلّ العراق وأفغانستان، وجبهات خصامها مع الشعوب وشتى الأعداء مفتوحة عديدة، في أن تشهد سورية جولة من جولات ‘الفوضى الخلاّقة’، لن تنقلب أولى عواقبها الوخيمة إلا على أمريكا، ثمّ على حلفائها وتابعيها في المنطقة؟ وإذا جاز القول إنّ النظام السوري ليس صديقاً لأمريكا على غرار الصداقات الكويتية أو السعودية أو المصرية، فهل يجوز الإستطراد بأنّ النظام عدوّ لدود للولايات المتحدة؟ كلاّ، أجاب عدد من الدبلوماسيين المخضرمين، ممّن امتلكوا بعض الحصافة في قراءة خرائط الشرق الأوسط، لا سيما طبائع الحاكم والحكم والاجتماع والعقيدة والإستبداد والفساد.
على العكس، ساجل هؤلاء: هذا أحد أفضل الانظمة التي شهدتها سورية في خدمة المصالح العليا الأمريكية، منذ ‘اتفاقية سعسع’، 1974، التي أدخلت نظام فصل القوّات وجعلت الجولان منطقة هدوء قصوى للإحتلال الإسرائيلي، وأمان مطلق للمستوطنين؛ وصولاً إلى التعاون الأمني الوثيق بين الأجهزة السورية والأمريكية، في ما تسمّيه واشنطن ‘الحرب على الإرهاب’، وآخر وقائعه نقلها سيمور هيرش على لسان بشار الأسد، في ‘نيويوركر’، قبل أيام؛ دون نسيان الإنخراط العسكري الرسمي في عداد الجيوش التي شكّلت تحالف ‘حفر الباطن’، والتمهيد لعمليات ‘درع الصحراء’، 1991.
ومنذ ربيع 2005، أي في ذروة ما كان يُصنّف تحت توصيف ‘الضغط’ الأمريكي على النظام السوري’، أعلن آدم إيريلي، نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية، أنّ واشنطن ليست معنية بتغيير النظام السوري، ونفى وجود ‘خطط بديلة عن نظام بشار الأسد’، وأكد على نحو بليغ واضح: ‘النقاش دار حول كيفية مساندة رغبة الشعب السوري في الإصلاح، وفي حرّيات أكبر، وفرصة أفضل… من داخل النظام القائم هناك حالياً’. من داخله، إذاً، وعبر مؤسسات السلطة فيه وليس على أنقاضها، وبغرض مفهوم غائم عن الإصلاح لا يختلف حوله اثنان، وليس التغيير أو التأثيم أو حتى اقتراح مدوّنة سلوك.
خلال الفترة ذاتها كانت تقارير جادّة قد تحدّثت عن رجاءات حارّة توجّه بها بعض القادة الأوروبيين (فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا) إلى الرئيس الأمريكي، لتخفيف الضغط عن نظام الأسد، كيلا ينهار فجأة أو يتشقق أو يتداعى. وبعض التصريحات الأمريكية ردّت بأنه لا حاجة إلى توصية حريص، كما حين قالت وزيرة الخارجية آنذاك، كوندوليزا رايس، في التعليق على سيناريوهات ما يجري أو سيجري في سورية: ‘ما نحاول القيام به هو تقييم الموقف حتى لا يُباغت أحد، لأنّ الأحداث تتسارع بشدّة وفي اتجاهات غير متوقعة، بحيث يقتضي الحذر معرفة ما يجري في هذه الآونة’. وتلك آونة شهدت، أيضاً، حرص العاهل السعودي الملك عبد الله على ضمان ‘حسن سلوك’ النظام السوري، بعد العواصف التي أثارها تقرير ديتليف مليس، المحقق الأوّل في اغتيال الحريري؛ فضلاً عن الرعاية الأبوية التي لم يكفّ الرئيس المصري حسني مبارك عن إغداقها على الأسد…
وفي ربيع 2007 قامت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النوّاب الأمريكي، بزيارة إلى سورية، كانت في الواقع تعطي إشارة على اختلاف الحزب الديمقراطي مع مقاربة بوش، في حماقة ‘الحرد’ الدبلوماسي، من جانب أوّل؛ وتشدّد، من جانب ثانٍ، على درجة عالية من الثبات في تبنّي المطالب ذاتها، بحذافيرها، التي يشترطها البيت الأبيض لتحسين العلاقة مع النظام السوري. وحين حرصت بيلوسي على الإجتماع مع رايس قبيل انطلاق طائرتها إلى الشرق الأوسط، كانت على نحو ما تستلم لائحة الرسائل الشفهية التي سوف تبلّغها، تماماً كما فعل وزير الخارجية الأسبق كولن باول ومساعده ريشارد أرميتاج غداة اجتياح العراق، وكما فعل أعضاء الكونغرس من زائري دمشق منذئذ.
والأرجح أنّ المرء يعثر على خلاصة لتلك اللائحة، ‘معتدلة’ و’متهاودة’ إذا جاز القول، في التوصية رقم 15 من تقرير جيمس بيكر ـ لي هاملتون الشهير حول العراق، حيث تحثّ التوصية إدارة بوش على فتح حوار مع سورية بصدد حلّ مشكلات العراق (أو بالأحرى: حلّ مشكلات التورّط العسكري الأمريكي في العراق)، وتطالب النظام الحاكم في دمشق بتنفيذ ما يلي، ونقتبس حرفياً:
1) التزام سورية التامّ بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 لشهر آب (أغسطس) 2006، والذي يؤمّن الإطار لاستعادة لبنان سيطرته السيادية على كلّ أرضه؛ 2) تعاون سورية التامّ في كلّ التحقيقات الخاصة بالاغتيالات السياسية في لبنان، خصوصاً اغتيال رفيق الحريري وبيير الجميل؛ 3) الإيقاف الفعلي للمساعدة السورية لـ ‘حزب الله’ واستخدام الأراضي السورية لنقل الأسلحة والمساعدات الإيرانية إلى ‘حزب الله’ (وهذه الخطوة سوف تساعد كثيراً في حلّ مشكلة إسرائيل مع ‘حزب الله’)؛ 4) استخدام سورية نفوذها لدى ‘حماس’ و’حزب الله’ من أجل إطلاق سراح جنود قوّات الدفاع الإسرائيلي المختطفين؛ 5) الإيقاف الفعلي للجهود السورية الرامية إلى نسف حكومة لبنان المنتخَبة ديمقراطياً؛ 6) الإيقاف الفعلي لشحنات الأسلحة من سورية، أو عبر حدودها، إلى ‘حماس’ وسواها من المجموعات الفلسطينية الراديكالية؛ 7) التزام سوري بالمساعدة في الحصول من ‘حماس’ على اعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود؛ و8) بذل سورية جهوداً أكبر لإغلاق حدودها مع العراق.
هل من اللائق، حقاً، الحديث عن علاقات سورية ـ أمريكية مقبولة وسليمة، إذْ يصعب أن تكون جيدة وصحية، إذا كانت نصف هذه البنود بمثابة اشتراط مسبق لإعادة الدفء، أو بعضه، إلى صقيع دام خمس سنوات؟ وما الذي سيتبقى في جعبة النظام السوري من هوامش مناورة، أو أوراق مساومة إقليمية، إذا توجّب أن يقع بين هذه المطرقة الأمريكية وسنديان الهدايا السعودية المسمومة التي أخذت تتقاطر عليه منذ زيارة العاهل السعودي إلى دمشق؟ وهل ستبدي واشنطن علامة حسن نيّة واحدة، فترفع اسم سورية من لائحة الدول الراعية للإرهاب؟ وهل من الممكن لأي استئناف للعلاقات السورية ـ الأمريكية أن يثلج صدر إيران، والأجنحة المتشددة تحديداً؛ أم أنّ المنتظَر هو أن تضيق طهران ذرعاً بإمعان النظام السوري في اللعب على كلّ الحبال تقريباً؟
الإجابات على هذه الأسئلة لا ترتبط حصرياً بلقاء برنز مع الأسد، وتسمية سفير أمريكي جديد في دمشق؛ إذْ أنّ لقاءات دانييل بنجامن، مسؤول مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية الذي مكث في دمشق للاجتماع مع عدد من ضباط الأمن، لا يقلّ أهمية؛ وأمّا الأصداء الأكثر مغزى في البحث عن الإجابات فإنها لن تتردّد في دمشق أو واشنطن وحدهما، بل في بيروت وبغداد والرياض. وفي تل أبيب، غنيّ عن القول!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى