جورج شحادة حيث الملائكة مستمرة وقريبة
علي جازو
بعض الشعر لا يعتريه زمان. شعر جورج شحادة من هذا القبيل. تقرأه كأنك تكتشف الشعر للتوّ. وتشربه كأن الينابيع لم تتفتّح من قبل بل من تلقاء مروره بها. وتأكله كأنكَ جائعٌ الجوع كلّه، جوعكَ وجوع البشر. هل لأنكَ تنسى، لا يذكّركَ شعرُهُ بأنكَ قد قرأتَه مرةً واثنتين وعشراً؟ لا. ليس ثمة نسيان. وإنما لأنه يُشعرِكَ بأنكَ إذ تقرأه فكأن صعق الحبّ يُعميكَ للمرة الأولى. أو كأنكَ ترى البروق الكونية للمرة الأولى. هنا قراءة من هذا القبيل.
قصائد حنين جديرة بفم الغناء، تراتب أنيس ولطافة رقيقة، بناءات سلسة ونداءات أنيقة، دفؤها جناحٌ من الزهور البرية، وصمتها باهرٌ. تهمس، بلا ضجيج فكري ولا تفجر بلاغي. قصائد لا يمكن أن تُقرأ إلا إذا كانت العيون مغمضة، إلا إذا كانت معانقة ومحتواة داخل غلاف من الحب، ساحر وعميق. بكلمات لا تعضّ على جرح لسانها قدر ما تداعب النفس المنطوية كأبهى ما تكون المداعبة. اقتناءٌ للصيغ، شحيحٌ وزاهد ومكثف، كما لو أن الكلمات مكوّناتٌ ومفرداتٌ لرسوم نادرة، تتواتر وتتلاقى وتنصهر، وإنْ بكثير من مهارة المصادفة المضيئة، منسابةً وطيّعة بلا عائق، وربما بلا هدف. إذا كان من ترتيب لها وتشذيب، وتكامل شكلي وتقصّدٍ واع، فعلى مسافة وجْد أكثر نأياً، على رفعة احتفاء وفيّ بوعود حياة لا تعرف غير الماء يلمس براءة النبع، وثراء التراب، وخشونة الصبر وجلاء الشغف.
شعر جورج شحادة (1907-1989) علامةٌ كبرى على تواصل عشقي مستمر، ومكابدة جوهر عصيّ وأليف يظل في طور توارٍ فتّان. براءةٌ تكاد لا تنفد، ولا تنتهي من إرواء لطف رقيق. هنا نجد قوة التداعي الحر وخفّته، والتحوّل المتماسك والأناقة السابحة. ليست لغة جورج شحادة لغة أشياء عضوية متصلة، ليست ثقيلة ولا متراصة ولا متراكبة، إلا بقدر قربها من ظلال لا تتكلم، وهواء عتيق لا ينقطع ولا يسكن ولا يبيت. بالطبع ليست مسرحياته شعراً كذلك، لكنها تحافظ على خفاء الشعر وقدرته على التسرب والمراقبة والتخيل والاستعارة الساخرة، قدرته على البقاء والانتظار، حيث الخوف شقيق الأسى، والعبث دليل السخف، والغضب وجه الألم الظاهر. إنه حاضر في كل ضوء منعزل. الكآبةُ ترافق السخريةَ، وكلاهما تهمس بتألُّقٍ بِكْر. لقد حوصر الصوتُ، وهو في الأساس أعزل ومنفرد. حوصر وانضغط حدّ الصفاء وحدّ التقطير الشبيه بالعطر. هنا يمكن الأشجار أن تتكلم، والفصول، الدائمة التعاقب والهرب، أن تبتكرَ فصلاً خامساً، فصلَ أبديةٍ حانية، حيث سلطان الرأفة، لا الألم، خارج من الزمن كله ليعيد عذاب الغائب إلى فتنة جماله. حدود النفي الضيقة، وهي نهمة كنحيب العزلة الساخن، من حدود الجغرافيا نفسها التي تحضن مكان الشاعر كتوقد دافئ غزير. وهذا النفي الندي والمتشعب كأغصان الأشجار، ما أقربه إلى ظلال وأطياف وكلام أشباح. لا يندمج ولا يخضع مع قوة شكوى تلغي نقيضها. الشعر تجاوز للنقائض ودرامية التنافس المغلقة. ليس النقيضُ محلَّ عراكٍ فقير، ليس النقيضُ ولا الشاكي من عبث أضداد سقيمة وعقمها، ما يجدر أن يحرك دمَ شاعرٍ زاهٍ، ويحرثه. إنما هي الأشكال مرسومةً ومختارةً في ذروة بهائها ورحابة حنانها. الرسم المصطفى، والموسيقى التي تنبعث كما لو من فم الأرجوان أو من “أصابع جبريل الشبيهة بالكمان”، حيث تتوارى كل الآهات وتذوب وتغرق حينما يشرق قلبُ نشيدٍ صافٍ قرب حزن الينابيع الأبدي، وحيث، أيضاً، لا أفق ولا رجاء يحمل عبء هذا النشيد وجماله: “فوق جبلٍ/ تتحدث فيه القطعان مع البرد/ كما تحدّث الله / حيث الشمس في كونها الأول/ ثمة أهراء مليئة بالعذوبة/ من أجل الإنسان السائر في سلامه/ أحلم بهذه البلاد حيث الحسرة/ شيءٌ من الهواء/ حيث يسقط النوم في البئر/ أحلم وأنا هنا/ قربَ جدار من البنفسج وهذه المرأة/ التي تبدو ركبتها المنفرجة تعباً لا نهاية له”.
ليس لقصائد شحادة ثقلُ كتلة مكانية حاجبة، ولا تكوّمُ حجارة وانغلاقها على دروب معتمة. إنها من مادة الزمن المتموج بعدما عانى وتحوّل وشاخ، حدَّ إشعاع حكمةٍ ضالة، حدَّ النضج الثاقب والإشراق المتكلم بفم من أثير النهار وضوئه. لذلك هي أقرب إلى الموسيقى مرسومةً في حال تموُّجٍ وارتعاشٍ ممتزجَين، أقربُ إلى الأثر الذي تخلّفه ظلالٌ خرساء ناعمة. كلمات شحادة أشبه بصدى لصوتٍ مختنق أو مفقود. مع ذلك، فهي تفسح دروبَ لاوعيها على تداعيات ثرّة، وغبطة لا حدود لها. لأن حرارتها ودفئها يسريان من دون تعثّر ولا ارتطام. وإذا كان لا بد من مصدر لهذا الصدى المرتعش، الصدى الضيّق الصوت، فهو رجاءٌ بلا أمل، ورأفةٌ بلا توسُّل. شساعةُ الرجاء تنهضُ، وعمق الرأفة يرفعُ صلاتَها. نقاءٌ بلا قسْر، وحلمٌ ما عضَّه زمنٌ إلا ازداد نضارةً وقرباً وتورداً. مع ذلك فإن قصائد جورج شحادة ابنة شقاء نفسي كبير. وهي بلا شحوب؛ ذلك أن الشحوبَ من فعل مرور الزمن، وقصائد شحادة مكتوبة لكي تتجاوز الزمن كعبء وكحاجز وخاتمة قاهرة. لا تبدأ من مكانٍ كحيز ثابت، إنها تنتشر في كل صوب كعطر أخّاذ. إنها أقرب إلى تموّج سحب الغروب، وارتعاش بتلات الزهور تحت مطر بدايات الخريف. إنها مسكونة بعريها من الزمن الذي لا يخلّف غير ظلال عارية. وستأخذ سمةُ النجوى الظليلة جوانبَ معظم أعمال شحادة، حتى المسرحية منها. كتابةٌ لنأيٍ أكثر صفاءً، وقرْبٍ أرهف لوعة، وتعاطف عميق. ليست مسرحيات شحادة مسرحيات دراما ألفت الصراعَ وزخم التحرك وشظايا التمزق النفسي، فقد سحب منها الشاعر خواء الصراع لصالح صدق أكثر صعوبة من قوة الصراع وجاذبيته، جفّف صرخاتها لأجل صوت أكثر انخفاضاً في النبرة، صوت التوسل الذي لا يعنيه غيابه في شيء. إنه عمل المقطِّرين، ومصفِّي تركة روح العالم. إذا كان من صراع فليتفتَّحْ عن زهرة الضرورة التي لا تبيح غير حبّ شقي وغير سفر في أرض الأحلام الحزينة. رقةٌ لا تجرح، وأسىً بلا نديم سوى ملامح من هياكل الغابات وسواقي الريف. تأملٌ أسيرٌ، حكمة لا تنفي السرّ ولا تعلنه. معظم أبطال شحادة مسافرون يموتون غرباء ووحيدين. بكلمات قليلة، بإيمان بالكلمات منقطع النظير. ذلك كافٍ ليتوقف الزمن عن طحن أبنائه. ذا نداءٌ يستمر مع ملائكة حبٍّ مستمرة، وسط صرخات الطبيعة المهانة وامتحان المعرفة باللاشيء، حيث الشجرة، لا تزال، كالرغبة، صديقة الإنسان، لكن حيث دائماً، مع حرير الرقة، وحليب الأسى، ثمة خوفٌ وراء كل شيء، وثمة رأفةٌ تمنع النهاية من أن تكون ظلاماً دائماً، برداً دائماً ¶
ملحق النهار الثقافي