صفحات سورية

بغداد

null


بدلا من العودة بالذاكرة الى الوراء، الى خمس سنوات مضت، يمكن القفز بالمخيلة الى الامام، الى ما بعد خمس سنوات مقبلة، لرسم صورة افتراضية لبغداد، العاصمة التي تبدو اليوم مجرد لوحة دامية، تختصر بلدا محتلا ، ومجتمعا ممزقا، وشعبا متناحرا… وتعكس مشهدا عربيا واقليميا مريعا.

لا تفيد استعادة ذكرى سقوط بغداد في التاسع من نيسان العام 2003 سوى في تظهير الفضيحة الكبرى، التي تجلت في دخول المحتلين الاميركيين للمرة الاولى في التاريخ عاصمةٍ عربية كان يسودها الفراغ، ودولة كان يحكمها الخوف، وجمهور كان موزعا بين الترحيب بالغزو وبين الاستياء لوصوله بسرعة فائقة الى قلب المدينة العريقة، التي لا تزال تُظلَم عندما يقال انها لم تقاوم، على الاقل مثل بيروت التي صمدت اكثر من ثمانين يوما في وجه الغزو الاسرائيلي في العام 1982. فقد كانت العاصمة العراقية قد دمرت وافرغت من محتواها ومن كبريائها على مدى اكثر من ثلاثين عاما، نصفها كان نتيجة الحروب العبثية مع الخارج، ونصفها الآخر كان نتيجة الحملات الدموية على الداخل. وما جرى في ذلك اليوم كان اشبه بعملية تسليم وتسلم بين النظام والغزو، لبلد لم تكن فيه أي علامة من علامات الحياة. يمكن القول انها كانت لحظة سقوط حكم البعث في العراق، لكن الحزب لم يكن حاكما بالفعل، بعدما استولت احدى مافياته على السلطة، وسار خلفها حتى الرمق الاخير… الذي ظهر في الاحتفالات بالذكرى الـ61 لتأسيسه قبل ايام، حيث جرى القفز من فوق التجربة العراقية البائسة، الى خطاب قومي لا يمكن ان يُبعث حيا، من دون ارادة الاميركيين وجدول اعمالهم. بعد خمس سنوات على السقوط، عاد العراق الى مكوناته الاصلية، السابقة حتى لدولة الخلافة العثمانية، او الانتداب البريطاني. لكنها كانت عودة حتمية، بادارة الاحتلال الاميركي من جهة وحماقته من جهة اخرى. وكانت محصلتها الاولى انعدام فرص نشوء مشروع وطني عراقي، من خارج «العملية السياسية» التي حدد الاميركيون خطوطها العامة، وتركوا لتلك المكونات القومية والمذهبية التفاوض على التفاصيل. المزاح المتكرر حول المقاومة العراقية للاحتلال، سواء عند السنة او الشيعة، التي تتخذ شكل الاستراحة بين فتنة واخرى، لا يمكن ان يخدع الاميركيين بوجود عصبية وطنية على النمط الفيتنامي مثلا، ولا يشكل بديلا للفيدرالية المذهبية التي يتوقعونها، ولا لبغداد العاصمة المفتوحة التي يخططون لقيامها وتحويلها الى نموذج عراقي واقليمي يحتذى، يفتقر الى أي هوية عربية او اسلامية، ويُبنى على اساس التجارة والسياحة والاعلام. ربما كانت ولا تزال هناك محاولات مقاومة، لكن الفتنة المذهبية جرفتها، وساهمت في بلورة شكل العراق بعد خمس سنوات باعتباره مثل أي ولاية اميركية تفخر بديموقراطيتها، وازدهارها الاقتصادي، واستقرارها السياسي… وتلغي من ذاكرتها الاحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على سقوط عاصمة الرشيد، في ايدي محتل لن ينسى ابدا ذلك اليوم الحاسم في تاريخه. *نقلاً عن صحيفة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى