الإسلاموفوبيا والعلمانية الديمقراطية
هيثم مناع
“الطريق سالكة لتقود العنصرية العالم الغربي للخسارة، ومن ثم الحضارة الإنسانية برمتها. لا يهم ما بإمكان العلماء المحنكين أن يقولوه، فالعرق ليس بداية البشرية بل نهايتها، ليس أصل الشعوب بل مؤشر انحطاطهم، وهو لا يشكل الولادة الطبيعية للإنسان بل موته المناهض للطبيعة”.
عندما أطلقت حنا أرندت هذه النبوءة لم يخطر على بال أحد أن أوربة المتعافية من نزيف النازية والفاشية يمكن أن تكون ضحية الغلو العنصري مهما كان شكله وطبيعة من يستهدف. ولكنها تبدو لنا اليوم نبوءة مخيفة في عالم غير مستقر تقوده قوة عظمى تخلت عن أهم مرتكزات بنائها الليبرالي (الولايات المتحدة الأمريكية) وروسيا مجهولة الحاضر والمصير، وكتلة هائلة من البشر تسعى عبر حزب شيوعي لبناء رأسمالية جبارة (الصين) وعالم إسلامي يحمل كل فيروسات الموت وبكتريا صناعة الحياة في آن. من هنا يشعر المرء بحاجة ماسة للتجربة الأوربية والاعتدال الأوربي كجزء من حماية السلام والجنس البشري في هذه الحقبة الانتقالية المضطربة. من هنا مسؤولية أوربة عن نفسها ومسؤولية المسلمين والعرب التاريخية فيها في عملية تأصيل الحريات الأساسية والحقوق الفردية والجماعية. ذلك باعتبارها الضمانة المشتركة للحفاظ على مكانة هذه القارة، ليس فقط كقوة جيو سياسية، بل أولا وقبل كل شيء كحاملة لقيم التنوير التي حجّمت من فظائع الرأسمالية والاستعمار بمختلف أشكاله.
تحوّل الإسلام في أقل من نصف قرن من دين له وجود في أوربة إلى أحد الجماعات الاعتقادية الأساسية. ولم يكن هذا المشروع يجول بخاطر أحد: لا رجال الأعمال الذين استقدموا قوة العمل الرخيصة، ولا الحركات الإسلامية التي لم توجه أساسا نشاطها السياسي أو التبشيري للعالم الغربي. لكن في أية ديمقراطية شكلية، تسري قوانين الديالكتيك بشكل أسرع من المجتمعات المحنطة بنظامها الاستبدادي. فلا تلبث أية جماعة كمية أن تتحول إلى قوة نوعية. وهذه القوة في طور التكوّن تشكل دون شك المادة الأكثر خصبا لتقوية الخوف من الإسلام. فهي مطمع لكل الحركات الإسلامية السياسية، ومادة ضغط وضغط مضاد لكل الدول التي ضخت جاليات كبيرة، ومصدر خوف لكل الذين تقاسموا الكعكة السياسية والثقافية والإعلامية من لاعب جديد ليس بالضرورة خاضعا للسيطرة. فالمواطنة تشبه نظام الأرض المشاع، كلما تغيرت التركيبة السكانية احتاج الأمر لإعادة القسمة، ولو أن هذه الإعادة في أزمنتنا المعاصرة لا تتم بالضرورة بشكل عادل، بل وغالبا ما تكون جائرة.
هل من الضروري التذكير بأن الإندماج اليهودي في أوربة قد احتاج لعقود طويلة سبقت قيام دولة إسرائيل؟ وأن الجاليات الآسيوية ما زالت جاليات اقتصادية أكثر منها جاليات مشاركة سياسية ومدنية؟ وأن صورة الإسلام الشمولي هي مصدر خوف لدى المثقفين الأوربيين، بمن فيهم المدافعين عن الحقوق والحريات الأساسية للمهاجرين؟ يعزز ذلك أزمة الجيل الأول من الإسلاميين الذين ناضلوا طيلة عمرهم ضد العلمانية في بلدانهم باعتبارها بضاعة غربية تستهدف الإسلام. وها هم يكتشفون أن النظام العلماني هو الأنسب لأية أقلية دينية في أوربة، بما في ذلك الأقلية المسلمة. مع ذلك، يتابعون نضالهم السياسي من أجل دولة إسلامية في دار الإسلام، ويشنون هجوما منهجيا ومستمرا، ليس بالضرورة منصفا أو عقلانيا، على العلمانية.
من الضروري التذكير بأن الجمهورية، وليس العلمانية، كانت العدو الأول للكنيسة (التي تحالفت تاريخيا مع الإقطاع والملكية ضد الطبقة البرجوازية الجديدة والنظام الاقتصادي الرأسمالي الوليد). هذه الجمهورية التي زرعت، ومنذ الأيام الأولى لولادتها الأوربية في القرن الثامن عشر، مجموعة مبادئ أهمها الحرية والمساواة والإخاء والتضامن والأمن وسيادة الشعب ومبدأ فصل السلطات. ثم اغنت فكرة فصل الدولة عن الكنائس في القرن التاسع عشر، بانتظار عام 1905 تاريخ صدور أول قانون علماني أساس في فرنسا ينص على فصل الكنائس عن الدولة. وقد كان في صلب نقاشات ذاك العام رفض فكرة أن يُفرض على المجتمع قواعد منبثقة من عقيدة أو دين واحد. في حين تعززت مبادئ الجمهورية مع جان جوريس، وبعده مع الجبهة الشعبية، بمفهوم الجمهورية الاجتماعية. لتشهد نهاية القرن إضافة التنمية البيئية لهذه المبادئ عند قوى اليسار بشكل أساسي.
ليست العلمانية قيمة أو عقيدة، بل هي مبدأ، أي اقتراح ينطلق من محاكمة عقلية تحتفظ بالفكرة انطلاقا من النتائج المترتبة عليها. وهي بهذا المعنى غنية ومتنوعة في تعريفها وتطبيقاتها.
يرفض المثقفون الديمقراطيون العلمانيون أية فكرة استئصالية لمن يخالفهم الرأي. وهم يعادون الستالينية باعتبارها نظاما شموليا نصّب الإلحاد دينا. كما ويناهضون التيارات المحافظة الجديدة لتوظيفها الدين في معركة الإغاثة والعمل الخيري كبديل لحقوق اقتصادية أساسية، وفكرة التضامن البشري القائمة على التكافؤ لا على الشفقة. إنهم يتفقون على ثلاث مواصفات للعلمانية:
– الحرية المطلقة للضمير والرأي،
– عالمية الحقوق،
– مبدأ الفصل بين الكنائس والدولة.
لكن ما هي الفضاءات الواجب الفصل فيما بينها، وهل تشكل العلمانية عائقا أمام أي نشاط ديني؟
للإجابة على هذا السؤال، من الضروري التذكير بنظرية الفضاءات الأربعة التي يدافع عنها تيار واسع من العلمانيين في فرنسا: الفضاء الخاص، الفضاء المدني، السلطة السياسية وفضاء بناء الحريات.
إن كان الفضاء الخاص يغطي ما يعرف بالحريات الشخصية، فإن الفضاء المدني يشكل الحيز الأكبر للنشاط المجتمعي. ولا ضير أن نجد أعلى نسبة مشاركة في الجمعيات الدينية في الدول العلمانية، التي تسمح لكل التعبيرات الدينية بالنشاط وتكفل حرية العبادة والتبشير والشعائر. وثمة إجماع عند العلمانيين على عدم منع أية علامة دينية في الفضاء المدني. أما تعبير السلطة السياسية، فيغطي السلطتين التشريعية والتنفيذية والإدارات. في حين يعني فضاء بناء الحريات كل ما يسمح ببناء المواطنة كالمدرسة والحماية الاجتماعية والصحية والقطاع العام.. من هنا وقف المثقفون العلمانيون ضد العلامات الدينية في المدرسة الابتدائية التي هي المكون بامتياز للمواطنة المشتركة وزراعة الحريات. ومن المأثور أنه عندما دخلت ميليشيات حليفة للألمان إحدى المدارس وطلبت الأطفال اليهود منها أجاب الناظر: “ليس لديّ أطفال يهود، عندي تلاميذ”. في حين وقف المثقفون هؤلاء أنفسهم مع حركة حقوق الإنسان ضد صدور قانون يحظر النقاب في الأماكن العامة لعدم وجود أية علاقة بين حظر النقاب والعلمانية.
هناك من يتحدث عن لاحقة يجمّل بها العلمانية (المفتوحة، التعددية، الإيجابية، علمانية الاعتراف..)، في حين يرفض أكثر المثقفين الديمقراطيين هكذا لاحقة. برأيي يمكن الحديث عن العلمانية من وجهة نظر التكون التاريخي. فهي في ألمانيا وبريطانيا تتميز بالحس العملي البراغماتي، بينما في فرنسا يمكن وصفها بالمناضلة، وما تحمله جنوحات الاستئصال التي تولدها حالات الصراع والمواجهة. هذه التيارات العلمانية الفرنسية، التي حرصت على أن تكون في صلب الحركة الحقوقية أو أن تنهل مرجعيتها من مواثيق حقوق الإنسان، قد أخفقت في أكثر من امتحان. خاصة مع تصاعد جماعات ضغط مناهضة للمسلمين في داخلها، سواء كان ذلك من أنصار الحركة الصهيونية أو المحافل الماسونية أو الليبراليين الجدد. لذا لا نستغرب أن نجد معنا، في قضية غوانتانامو والسجون السرية والقوائم السوداء، شيوعيين وخضر واشتراكيين وتروتسكيين وأنصار بدائل العولمة، وقلما نجد جمهوريا يمينيا. كذلك الأمر في قضايا إغلاق المعابر والحصار والجدار والعدوان على قطاع غزة، حيث تقف نخبة من العلمانيين اليساريين في مقدمة الحملة لرفع المنظمات الفلسطينية عن القوائم السوداء والتعامل الطبيعي مع حركة حماس.
لا يمكن الإكتفاء بقراءة الإسلاموفوبيا من وجهة نظر اجتماعية- نفسية، نابعة من التوظيف الإعلامي والسياسي والإيديولوجي لعدة أطراف مستفيدة. ومن الضروري متابعة آليات إدارة المواجهة معها والأسلحة الناجعة للقدرة على التأثير في الرأي العام وفرملة الاستعمال الشعبوي الرخيص. لذا يفترض امتلاك الجرأة للنظر إلى التجمعات الإسلامية المنظمة وأساليب عملها ودعاوتها. فهناك أطراف إسلامية سياسية تخوض معركة شيطنة الآخر بنفس الوسائل ونفس الخطاب الإسلاموفوبي معكوسا. وهي تضع نفسها في عزلة عن الحركة المدنية والحقوقية المناهضة للإسلاموفوبيا، خوفا على هويتها الخاصة أو دورها كتنظيم سياسي غير أوربي. والعديد من الأصوات والحركات يتصرف على أساس أن الجاليات المسلمة في أوربة ليست مربط الفرس وإنما المجتمعات الإسلامية الأم. وبالتالي فهو يضحي بكل الجسور الإيجابية والبناءة التي يخلقها النضال المشترك من أجل الحقوق في أوربة، في سبيل ما يعتبره “الهدف الأساسي”. ففي أكثر من حلقة نقاشية، لم يمتنع أكثر من سياسي عن القول: “في كل معركة خسائر، وبكل الأحوال الجالية الإسلامية مرفوضة، فلماذا نضيّع الوقت؟”. ولا شك بأننا ندفع غاليا ثمن ازدواجية الخطاب عند عدد من الإسلاميين الذين يقولون بصوت منخفض “العلمانية هي النظام الأفضل للأقليات المسلمة في أوربة” ويكررون بصوت عالٍ: “الإسلام هو الحل”، يدافعون عن النقاب باسم حرية الملبس، ولا يقولون كلمة عن حرية الملبس في البلدان الإسلامية. أخيرا وليس آخرا، الهجوم الدائم من عدد من السلفيين على الديمقراطية، وكأنها السبب الرئيس للفسق والفحشاء والجنس المثلي والسفور.
برز ذلك في آخر المعارك ضد الإسلاموفوبيا (استفتاء منع المآذن في سويسرا ومشروع قانون النقاب في فرنسا). ووقعت في الفخ كبريات القنوات الفضائية العربية حيث وضعت وجها لوجه يميني متطرف مقابل إسلامي. فإذا بنا أمام مسلم يتوجه للآخر بآيات قرآنية، وعنصري أوربي يلعب دور الفقيه. في حين أن المعركة كانت على أرض أخرى مختلفة، في خلل نظام الاستفتاء وسهولة خضوعه لدكتاتورية الأكثرية. وضرورة الدخول في مناظرة جدية حول الديمقراطية التوافقية والديمقراطية المباشرة. وأخيرا غياب أي دور للمنظمات والدول الإسلامية في الدعوة لبروتوكول ملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يتناول بشكل محدد مجالات التدخل في قضايا حرية الاعتقاد والواجبات الدينية.
نفس الإشكالية نجدها في قضية النقاب، حيث عاد الهجوم الشرس على العلمانية والغرب، بل وعلى إحدى المحطات الفضائية على “منظمات حقوق الإنسان”. يتم ذلك بشكل ديماغوجي غالبا، عوضا عن قراءة خارطة المواقف الحقيقية، وعدم وجود اصطفاف عقلاني، والاختلاف في داخل العائلة السياسية الواحدة. مع ذلك ورغم أن الأمين العام لأكبر اتحاد للعلمانيين الفرنسيين، برنار تيبير، قال بوضوح: “منع النقاب في الشارع ليس علمانيا ولا يجوز منع العلامات الدينية والحجاب في الأماكن العامة”، لم نلحظ أي تغيير في الخطاب.
يجدر بالذكر أنه في 21/1/2010 أوضحت اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا، بأغلبية 34 صوتا ضد صوتين فقط، رأيها حول الحجاب الكامل أو النقاب. جاء ذلك في توضيح لوجهة نظر حركة حقوق الإنسان في فرنسا. وقد رفض هذا القرار الممتاز من حيث المبدأ سن أي قانون يمنع النقاب بشكل عام ومطلق. ذلك مع التأكيد على حرية الاعتقاد، ورفض أي شكل من أشكال التمييز، وضرورة التعامل مع كل الظواهر المشابهة وفق حوار مدني ونقاشات عامة خارج أية قوننة أو أساليب قسرية، وضرورة تعزيز ثقافة حقوق الإنسان في الجهاز التعليمي. بالطبع، لم نسمع أو نقرأ في أية صحيفة عربية أو وسيلة إعلام سمعية بصرية باللغة العربية عن هذا القرار الهام. خاصة وأن العديد من المحطات كانت قد أطلقت حكمها مسبقا بنفس الطريقة التي يطلق فيها العنصريون الفرنسيون حكمهم المطلق على الإسلام والمسلمين.
لا يمكن اعتبار هذا الوضع صحيا، وأنه في خدمة الجالية العربية والمسلمة في أوربة. كما لا شك بأن خوض معركة جدية ضد الإسلاموفوبيا يتطلب خطابا أكثر عقلانية وأقل دوغمائية، يحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية بشكل مبدئي لا بشكل انتقائي. ويعتمد استراتيجية إعلامية ومدنية وتشبيكية قادرة على الفعل المجتمعي والتأثير المتوسط والبعيد المدى، وليس فقط الفائدة الحركية المباشرة لهذا التنظيم أو ذاك الداعية.
الحوار المتمدن