نمط جماعة الإخوان المسلمين في الخلاف والانشقاق
محمد سيد رصاص
يعيب الشيخ تقي الدين النبهاني، مؤسس (حزب التحرير)، على (الاخوان المسلمون)، افتقادهم إلى الرؤية الفكرية العقيدية الواضحة، التي يرى الشيخ النبهاني أنها السبب في قيام نظم الحكم السياسية أو سقوطها. والواقع، أن من يقرأ كتابات أو خطب أو رسائل الشيخ حسن البنا، الذي أسَس جماعة الاخوان المسلمين في شهر آذار 1928، لا يمكنه إلا أن يتلمس ذلك. وإذا أراد المرء الدقة التصنيفية، في هذا الصدد، فإن (الاخوان) يمكن وضعهم في خانة الحركات “السياسوية”، التي تشتغل بالسياسة من خلال رؤية فكرية- أيديولوجية مبسطة غير واضحة المعالم والقوام، فيما كان الشيوعيون والبعثيون في حالة توازن بين (الفكر) و(السياسة)، بينما نجد الحزب القومي السوري الاجتماعي، وأيضاً حزب العمال الثوري العربي الذي أنشأه ياسين الحافظ عام 1965، في حالة أقرب لنموذج حزب التحرير من حيث اعتبار الفكر مدخلاً وأساساً للسياسة. من خلال هذا، كانت انشقاقات الشيوعيين تحمل بعداً ثنائياً، يحوي الفكر والسياسة، ثم ليتثَلثا في التنظيم، كما جرى في العراق عام 1967 وفي سوريا 1972، وهو ما حصل أيضاً لدى البعثيين في يوم 23 شباط 1966، وقبله بإنشقاق ياسين الحافظ عنهم في عام 1964، بينما كانت انشقاقات القوميين السوريين سياسية- تنظيمية، وأحياناً تنظيمية محضة مثل انشقاق1987، وهو ما كان يسمح بعودة الوحدة التنظيمية لاحقاً.
هنا، نجد أن الطابع “السياسوي” الخاص بجماعة الاخوان المسلمين كان يفرز نمطاً خاصاً، طَبَعَ خلافات وانشقاقات (الاخوان) به: كانت الهزة التنظيمية الكبرى، التي واجهها الشيخ البنا خلال قيادته للجماعة (اغتيل في يوم 12 شباط 1949)، ناتجة عن أسباب سياسية متعلقة باعتراضات نائبه أحمد السكري في عام 1947على سياسة البنا الصدامية مع حزب الوفد واقترابه من الأحزاب التي كانت قوتها لا تعتمد على الامتداد المجتمعي بل على قربها من القصر الملكي، مثل (الأحرار الدستوريون) و(السعديون). كان هذا أيضاً هو ما حكم الهزة التنظيمية الأكبر، بين عامي 1951 و1954، لما كانت اصطفافات (الاخوان)، بعد اضطراب تنظيمي أعقب اعتقالات ما بعد قرار حل الجماعة (8 كانون أول 1948) ثم اغتيال البنا، متحدِدة على أساس سياسي بين (الوفد)، الذي ألغت غالبيته البرلمانية معاهدة 1936 مع لندن في يوم 15 تشرين أول 1951 وما أعقب هذا من حرب عصابات شارك بها بعض (الاخوان) ضد القوات البريطانية في منطقة القناة بالتعاون مع الشيوعيين وشباب (الوفد)، وبين الملك فاروق الذي رأت قيادات اخوانية، كان منها المستشار حسن الهضيبي الذي اختارته قيادة الجماعة المنقسمة على نفسها “مرشداً” في يوم 19 تشرين أول 1951 وهو الذي كان حتى يومها خارج الصف القيادي إذا لم يكن خارج الجسم التنظيمي كله وفق بعض المصادر، أن المهمة الرئيسية هي في الترميم التنظيمي للجماعة ما يتطلب عدم المجابهة مع القصر الملكي والإنكليز، لتنعكس صورة الاصطفافات الاخوانية إثر يوم 23 يوليو1952، فخصوم الهضيبي (مثل الشيخ صالح عشماوي) الذين كانوا ضد اقتراب “المرشد” من الملك فاروق كانوا أقرب إلى الحاكمين الجدد للقاهرة من الهضيبي، الذي وجد نفسه، حتى اعتقالات تشرين أول 1954، أقرب إلى الوفد والشيوعيين الذين كانوا ضد حل الأحزاب وسيطرة العسكر على مقاليد الأمور السياسية، وقد استطاع عبد الناصر، قبيل أشهر من تلك الاعتقالات التي كانت خلفيتها السياسية متعلقة أيضاً بموقف الهضيبي الرافض لـ(اتفاقية الجلاء) الموقعة بين عبد الناصر والوزير البريطاني أنطوني ناتنغ بيوم 27 تموز 1954 وتشبيهه إياها بمعاهدة 1936، أن يخترق تنظيمياً وسياسياً جماعة الاخوان من خلال صف قيادي كان ينادي بالتعاون وعدم الصدام مع الحكام الجدد كان من ضمنهم العديد من أعضاء (مكتب الإرشاد) حيث كادوا أن يطيحوا بالهضيبي في انقلاب تنظيمي داخلي بالأشهر الثلاثة الفاصلة بين الاتفاقية والاعتقالات.
في هذه الحالات الخلافية الاخوانية، لم تنتج الخلافات التنظيمة عن (فكر) وإنما عن (سياسة)، ولم يكن هناك من مرافقات فكرية للخلافات السياسية، وإنما آثار تنظيمية: بعد عشر سنوات، من اعتقالات 1954، ظهر كتاب في تشرين الثاني 1964 أعطى فكراً اخوانياً جديداً قدمه سيد قطب في “معالم في الطريق”. كان هذا الكتاب مكتوباً في السجن، ولا يمكن عزل أفكاره عن تلك التجربة السياسية- التنظيمية التي مثَلتها عملية الصدام الاخوانية مع عبد الناصر، ليأتي رد الهضيبي عليه، وهو المكتوب أيضاً في السجن ببحر عامي 1968 و1969 تحت عنوان “دعاة لا قضاة”، مؤدياً إلى فرز فكري – سياسي تنظيمي بين تيارين، هما (الاخواني) و(الجهادي)، إما عبر تنظيمات منفصلة، كما في مصر (تنظيم”الجهاد”) وسوريا (تنظيم “الطليعة”) بقيادة الشيخ مروان حديد، أو إلى تداخلهما في التنظيم الاخواني، كما حصل في البلدين أيضاً (التيار القطبي بزعامة محمود عزت أمين عام التنظيم الاخواني المصري الذي كان القوة المحركة لتغيرات قيادة الاخوان الأخيرة + الشيخ سعيد حوا في التنظيم الاخواني السوري الذي كان وراء التقارب أثناء أحداث 1979 و1980 بين التنظيم العام للإخوان وتنظيم “الطليعة”).
ولكن، عندما خرج (الاخوان) من السجون المصرية، بين عامي 1971 و1974، فإن إعادة بناء التنظيم في عهد “المرشد” عمر التلمساني (1973-1986) كانت محكومة بعوامل “سياسوية”، مثلما كان الوضع في زمني البنا والهضيبي، وليست فكرية، رغم تشكل ملامح الإنشقاق “الجهادي” عبر تنظيمي (الجهاد) و(الجماعة الإسلامية)، وقد كان المرشدون الخمسة، منذ وفاة الهضيبي عام 1973، أقرب لنموذجي البنا والهضيبي ولو اقترب مصطفى مشهور الآتي من “الجهاز الخاص” أكثر من اتجاه سيد قطب، حيث كان اعتدال (الاخوان) أو تصلبهم محكومان بعلاقتهم السياسية بالآخرين، أي بالسلطة والقوى السياسية المعارضة، وليس برؤية فكرية- سياسية تحدد التلاقيات والتباعدات: في عام 2009، أثناء الأزمة الأخيرة في قيادة (الاخوان) بمصر، كانت هناك ثلاثة اصطفافات، بين اتجاه “سياسوي” أتى من جيل شباب الجامعات المصرية الذي كان الرافعة التنظيمية بالسبعينات لما انضم لتنظيم الاخوان المسلمين المعاد بنائه، ليلتقي ويتقارب ويندعم من “المرشدين” الخمسة في سياسته بالانفتاح السياسي نحو القوى المعارضة أو على السلطة وفقاً لقاعدة المصالح، مثَله الثلاثي عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب وعصام العريان.
السؤال الآن: هل يعني – من حيث الرمزية السياسية – انتصار التيار الثالث والثاني في انتخابات (مكتب الإرشاد) لجماعة الاخوان المسلمين يوم 21 كانون أول 2009، وإقصاء أبو الفتوح ومحمد حبيب، ثم انتخاب مرشد للجماعة كان من ضمن المتهمين في قضية سيد قطب عامي 1965 و1966، نهاية لما أسماه الرئيس أنور السادات عام 1974 بـ”الانفتاح السياسي”في مصر؟…
المستقبل